بنفسج

المهندس الأنيق.. كنت زينة الصورة الأخيرة وأول الراحلين

الأحد 10 اغسطس

مجزرة التابعين في غزة
مجزرة التابعين في غزة

لكلّ إنسانٍ في هذه الحياة مخاوفه، وكانت أكبر مخاوفي دومًا هي الفقد. أومن بأن الفقد قضاءٌ وقدرٌ كُتب علينا جميعًا، لكنّي لا أستطيع تصوّره، ولطالما حدّثتُ نفسي بأن الجميع من حولي فقدوا أعزّ الناس إليهم، ومع ذلك لم تتوقف الحياة. ها هم يعيشون روتينهم اليومي، يضحكون، يخرجون معنا لتناول الطعام، وأحيانًا يقول أحدهم: "فلان كان يحب هذه الأكلة"، وعندها تتوقّف اللقمة في حلقي، وأتساءل: هل بهذه السهولة يتحوّل من كان ينير أيامنا إلى ذكرى عابرة؟

أفيق من شرودي على جملة: "الله يرحمه"، فأردّد معهم: "الله يرحمه." والآن، بعدما جرّبت الفقد بنفسي أدركتُ جيدًا أن الإنسان قد يُمارس كل طقوس حياته بعد الفقد لكن كل شيء يصبح ناقصًا، حتى وإن بدا للناس كاملًا. لذلك، لا أتفق أبدًا مع عبارة "الوقت كفيل بالنسيان"، أنت لا تنسى لكنك تتعايش، من قالها لم يختبر حقيقة الفقد بعد.

لأنك عندما تفقد أحدهم تفقد جزءًا من روحك، لا يعود، تشعر أنك غريبٌ في هذه الدنيا، تتمنّى أن تُطوى أيامك سريعًا لتلحق بروحك... فقط حينها، قد تستطيع أن تلتقط أنفاسك من جديد. أذكر أننا في أحد الأيام اجتمعنا بعد غياب طويل، نحن السبع بنات والأخ الوحيد ووالدَيّ في غزتنا الحبيبة، وكانت تلك لحظة نادرة واستثنائية. حاولنا أن نلتقط صورة جماعية، فاستغرق الأمر وقتًا حتى هدّدنا والدي بالمغادرة إن لم ننتهِ من هذا الأمر بسرعة. بالفعل التقطنا الصورة قبل عامين من اندلاع الحرب وأرسلت إلى مجموعة العائلة.

الشهيد ابن زكي أبو حية.jpg

ومنذ تلك اللحظة، كلما وقعت عيني على تلك الصورة، ينتابني شعور غريب بالقلق.  وأتساءل في صمت: من سيكون أول من يغادر هذه الصورة؟ صورةٌ أصبحت تُعرف في قلبي بـ"الصورة الأخيرة"، لأنها كانت أخر مرة نجتمع فيها جميعًا. حتى جاء الخبر بعد ثلاث سنوات. أخي الحبيب، محمد، كان أول الراحلين. اصطفاه الله شهيدًا، وهو مرابطٌ في غزة، محاصر، مُجوع ، متوضئ، ويؤدّي صلاة الفجر حاضرًا في جماعة، أكمل صلاته وهو مصاب ثم خرجت روحه إلى بارئها.


اقرأ أيضًا: أنفال الرقب: الوجع ربيبي بعد زوجي وابنتي


ما أجملها من خاتمة، أن تحمل كتاب الله في صدرك ثلاثين عامًا من سنوات عمرك الثماني والأربعين، وتمضي إليه به، يا شهيد الفجر...في ذكرى استشهادك الأولى، أكتب عنك ولك. في مثل هذا اليوم، تلقّينا خبر استشهادك...والله، رغم الوجع كان أجمل خبر سمعته طوال أيام  الحرب.
لأنك عندما تحب أحدهم بصدق تتمنى له أن ينال مبتغاه وكان مرادك الشهادة، لم تكتفِ بتمنّيها. بل عملتَ لها ، هنيئًا لك، أنهيتَ اختبارك باكرًا في هذه الدنيا يا حبيبي.

والله، لقد رأيتك في المنام في الليلة الأولى بعد ارتقائك تحمل صحائفك وتنتظر مع مجموعة كبيرة من الشهداء. وفي اليوم التالي أخبرتنا في المنام أيضًا: "لا تبكوا عليّ، فأنا في أفضل مكان"، وكنتَ سعيدًا، وبأبهى طلة.  في مثل هذا اليوم، تلقّينا خبر استشهادك...والله، رغم الوجع، كان أجمل خبر سمعته طوال أيام الحرب. لأنك عندما تحب أحدًا بصدق تتمنى له أن ينال مبتغاه وكانت الشهادة مرادك. لم تكتفِ بتمنّيها... بل عملتَ لها.

أنا مهندس..خذ مني!

الشهيد أبو حية.png

وهبتَ حياتك لله. كنتَ الابن البار، والأخ الحنون، والزوج الوفي، والأب المتفاني في تربية أبنائك تربية صالحة، كنتَ صاحب رسالة، وتمتّعت بعقلٍ مفكّر، وقد وهبك الله بصيرة نافذة وقدرة على تحليل الأمور منذ صغرك. كنتَ تتميّز عن أقرانك بالتفكير الإبداعي، والعقلية الاستراتيجية، والرأي الراجح.وكنا إذا تشاورنا في مسألة، تضحك وتقول بثقة: "أنا مهندس، خذي مني!"

لا أعلم كيف تجرّؤوا على التقاطها! فهي صورة لم تأذن بها، لم تختر زاويتها، ولم تُطلب منك ابتسامة... لم تختر وقتها، ولم ترتدِ ما يعجبك فيها...وأقل: هل من الممكن لصورة واحدة أن تختزل ذكريات 48 عامًا قضيناها معًا؟ يا أيها المهندس الأنيق، صورة التقطت لك وأنت مسجّى، برداءٍ أبيض قد لا يعجبك، ولن تراها، يا لجرأة من التقطها!

فقدُك لم يكن سهلًا، و حِمْلُك لم يكن عاديًا، فأنت الذكر الوحيد بين سبع فتيات. كنتَ حاضرًا في كل المناسبات، أوّل من يسأل ويتفقد ويرافق، في المسرّات والأحزان... لكن هذه المرة، رحلتَ وحدك، ولم يُكتب لنا أن نحظى بلحظة وداع، كما حظي بها غيرنا من أهالي الشهداء. كنتُ أترقّب خلال فترة الفراق قبل الاستشهاد أن يرسل لي أحدهم صورتك، بوجهك المبتسم الجميل لكنّ الصورة التي وصلتنا كانت مختلفة.

لا أعلم كيف تجرّؤوا على التقاطها! فهي صورة لم تأذن بها، لم تختر زاويتها، ولم تُطلب منك ابتسامة... لم تختر وقتها، ولم ترتدِ ما يعجبك فيها...وأقل: هل من الممكن لصورة واحدة أن تختزل ذكريات 48 عامًا قضيناها معًا؟ يا أيها المهندس الأنيق، صورة التقطت لك وأنت مسجّى، برداءٍ أبيض قد لا يعجبك، ولن تراها، يا لجرأة من التقطها!

لذلك، لم أستطع النظر إليها، وقد مضى عامٌ على التقاطها، وأظنني لن أراها أبدًا، وإن امتدت الأعوام...ليس لشيء، وإنما لأنها تُعلن حقيقة الفقد. اكتفيتُ بصورك القديمة، تلك التي التقطتها لك،وأنت تبتسم للعدسة.

لطالما أخبرتنا أنك سترحل مبكرًا لكن لم أكن أدرك المعنى، لكنني كنتُ أرى حرصك الشديد على إرضاء أبي وأمي، وتفنّنك في برّهما وكأنك تستعجل رضا الله من خلالهما وكنتُ أرى أيضًا كم كنتَ حازمًا مع أولادك، رغم حبك العميق لهم، وكأنك كنت تُعدّهم للغد بدونك.

كنتَ تعلم أنك ستترك مدللتك الصغيرة، سارة، باكرًا. أنت من قلت لي ذات يوم: " عارف... مش حعيش إلها". أحتسبك يا حبيبي شهيدًا، لكني أقرّ بأني كنت أنانية قليلًا، تمنيتُ لك عمرًا أطول. لكنّك، والله، حيٌّ عند ربك، أطول عمرًا من الجميع. قال تعالى: "وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ".