وقف قبالة قبرها يتأمل الرمال التي غطت جسد ابنته، يود لو يعلو صوته حتى يبح، علّها تسمعه وتعود، كلمة "لو" باتت سجنه، تحاصره من كل الجهات. يظل يسأل نفسه لو أنها لم ترحل، لو أنها هنا الآن لتحتضنه، لو أن الزمن يعود، لو منعتها من الخروج لكانت يجانبي الآن، تفتك به "لو" حتى يوشك أن يختنق بها وهو يرددها.
انهمرت دموعه، وخانته قدميه، ليسقط جاثيًا على ركبته، مد يده ليمسح وجهه الغارق بدموعه الحارقة، لتلوح أمام وجهه ساعتها الصغيرة التي لم يخلعها من معصمه منذ وداعها. أغمض عينيه، فسمعها في خياله تهمس من بعيد: "بابا". ليهمس بصوت متحشرج: "انكسر قلبي يا بابا... والجرح مش هيطيب يا بابا".
هنا نحكي مع ياسمين الحداد شقيقة الشهيدة نسمة، لتخبرنا عن والدها الرجل الذي كسره استشهاد ابنته، ومنذ غيابها تشتعل الحرائق في صدره، ولا تهدأ، تروي عن نسمة الابنة البارة والحنونة، والأخت الجميلة، عن الفقد وألمه.
يوم اختفاء نسمة
في 30 يونيو/حزيران 2025، خرجت نسمة الحداد إلى المكتبة لتصور أوراقًا لدراستها، وبينما أنهت مهامها وتسير في شارع الوحدة بمدينة غزة، دوى انفجار عنيف، استُشهدت نسمة على إثره، لتُنقل لمشفى الشفاء، وتُوضع مع مجهولي الهوية، وفي المقابل كان والدها ينتظر عودة نسمة إلى البيت، يرن على هاتفها فلا تجيب، مرت الساعات ونسمة مفقودة، حتى عمموا صورتها وخبر تغيبها عن البيت على مواقع التواصل الاجتماعي علهم يجدونها، ولكن لا جدوى.
مر الليل ثقيلًا على العائلة، ينظرون لبعضهم البعض يخافون من أن ينطقوا "معقول استشهدت.. معقول اتصاوبت". في فجر اليوم التالي ذهب الأشقاء يزن ومحمد والأب يبحثون في المشافي، مع أن قلوبهم كانت ترفض التوجه إلى هناك، لكن العقل تغلب على المشاعر.
وبعد عناء، وجد الأب ابنته رفقة مجهولي الهوية، حاول أن يُكذب عينيه، ويقول: لا هذه ليست نسمة، ابنتي ستعود إلى البيت الآن، لكن وقف كالجبل يكتم دموعه، ينظر إلى وجه ابنته التي ابتسمت فور سماع صوته وأغلقت عينيها، لتنهمر الدموع التي قررت إعلان العصيان والانهمار.
اقرأ أيضًا: إجلال الحافي: شهادات الروضة وشواهد قبور.. ما تبقى لي
تقول شقيقتها ياسمين المغتربة في الإمارات: "يا الله.. كم كرهت الغربة في تلك اللحظة، كنت أود أن أعانقها العناق الأخير، رحلت أختي التي اعتبرها ابنة لي وهي مشتاقة للطعام، ولي، وللحياة، وقبل ساعات من استشهادها كانت تخبرني أنها متعبة جدًا وتعتقد أن مرضًا ما قد أصابها".
سكنت نسمة الخيمة وعانت مرارتها، وعرفت الجحيم بحق فيها، ثم انتقلت إلى العيش في مدرسة، وأثناء المجاعة لم تكن تستطيع أن تمشي لبضع أمتار، يوم استشهادها أخبرت شقيقتها كم هي جائعة، وتشتهي أكلات كثيرة.
قبل خروجها من البيت يوم استشهادها، انتقت ملابسها بعناية، "يزن نقيلي أي لبسة أحلى"، لتختار ما أحبته، وخرجت وهي تقول لوالدها "يلا عشان مستعجلة بدي ألحق". ثم قضمت الخبز اليابس والمحشو بقرصين من الفلافل، يتعجب والدها: "شو بدك تحلقي على مهلك". لترد: "ما تنساني في الغدا.. إن عملتوا غدا اليوم خبولي حصتي".
"بدي الشهادة"
لم تعش نسمة حياة وردية، كان لها جروحها، لكنها لم تضجر يومًا، سامحت كل من آذاها وسلمت أمرها للكريم، يوم استشهادها كانت رفقة صديقتها، فأذن آذان الظهر، قامت بالتيمم لتصلي، لكن فجأة دخل إلى المكان الذي تصلي فيه رجال، قطعت الصلاة عاقدة حاجبيها، "كان نفسي أصلي الظهر". قالت هامسة.
في حديثها مع ياسمين طوال عام ونصف من الحرب، تمنت الشهادة، وتطلب منها الدعاء بحسن الخاتمة والفوز بالآخرة، كانت محبة للتصوير، تلتقط صورها بكثرة وتخبر الأحبة بمدى أهمية الصور فهم من يتبقون ذكرى للإنسان بعد الرحيل.
اقرأ أيضًا: سناء الريس: رسائل حبسها الركام وأوصلتها الشهادة
بكت ياسمين وهي تستذكر وجه نسمة، عندما زارتها قبل الحرب بعامين في الإمارات، فقضتا سويًا أجمل 3 أشهر في العمر كله، واتفقتا أن تعيدا الكرة مرة أخرى، لكن قدر الله نفذ. تردف: "ما زال والدي منذ الفراق يذهب إلى قبر نسمة كل يومين، ويمشي في شارع الوحدة مكان ما استشهدت، وقاطع الطعام، حتى جاءته نسمة في المنام تصلي العصر وهو إمام بها، ثم قرأت على مسامعه سورة العصر، فكانت الرؤية طبطبة على قلبه المكسور".
كان فقدان نسمة خسارة فادحة لكل من عرفها، يحبها الكبار والصغار، يوم الاستهداف كانت تحمل معها دفتر رسم وألوان لتهديها لابنة الجيران الصغيرة، أما الجارة التي تبلغ من العمر سنتين كانت تأتي للصف التي تنزح به نسمة وتنادي عليها بصوت عال لتسمعها، فتدمع عين والدها.
رحلت نسمة الحداد وتركت وراءها أبًا خلع الألم قلبه من مكانه، يعيش بلا روح، يمشي في الطرقات بحثًا عن وجه ابنته، يبقى بالساعات في مكان استشهادها، وكلما داهمته نوبة شوق عنيفة قادته قدماه نحو قبرها.