بنفسج

في ذكرى الوداع الأول للعائلة.. وداع آخر وفقد أثقل

الخميس 02 أكتوبر

قصص الشهداء من غزة
قصص الشهداء من غزة

40 دقيقة في الطريق إلى البيت كانت على حافة الجنون. جسدها يرتجف بقوة، وقلبها يكاد ينخلع من هول الخوف. عشر دقائق من الركض حتى تصل إلى سيارة تقلّها إلى بيت العائلة حيث أمها وأشقاؤها. لا تعلم كيف ركضت كعدّاء محترف قضى حياته في الجري بين الطرقات، تلهث بعنف، ودقات قلبها تعلو بسرعة البرق، حتى رمت نفسها في أول سيارة قابلتها، ترجُو السائق أن يوصلها إلى أمها. كل دقيقة تنظر إلى ساعتها وتناجي الله أن يكون خبر استهداف بيتهم ليس صحيحًا، وستصل لترى أمها في صدر البيت تصنع كوب الشاي بحب.

قبل دقائق، وصلها اتصال من شقيقتها تقول فيه: "أبرار..." ثم صمتت، ليعلو صوت خالها: "قصفوا دار أهلك يا خال." فردّت: "أهلي بخير." وبعد رجاء منها قال: "الله يرحمها يا خال." جنّ جنونها، ترجوه أن يكون هذا كابوسًا سينتهي الآن.

هنا تحكي الصحافية أبرار جودة عن والدتها التي استُشهدت رفقة شقيقها مهند، وزوجة أخيها الآخر فداء، وابنتها سيلا. وفي ذكرى رحيلهم الأول، فقدت ثلاثة آخرين من العائلة: شقيقتها سمر وزوجها يونس، ونايا ابنة شقيقها التي كانت تتولى رعايتها عمتها سمر بعد استشهاد والدتها.

يوم انطفأ نور العائلة

قصص شهداء غزة .jpg

في 4 سبتمبر 2024، طالت الصواريخ الإسرائيلية منزل عائلتها بصاروخين، الأول انفجر، والثاني استقرّ على باب جيرانهم دون أن ينفجر بعد خلل أصابه. وبينما كان ذلك يحدث، كانت أبرار أنهت تناول طعام الغذاء مع زوجها، وتهمّ بكتابة تقرير كلّفت بإنجازه من الوكالة التي تعمل بها، ليقاطع خلوتها رنين الهاتف. ظهر صوت شقيقتها متحشرجًا فلم يطاوعها قلبها أن تخبرها خبر استشهاد العائلة، ليتولى خالها المهمة ويقول لها الخبر الأصعب على الإطلاق.

تقول لبنفسج: "لم يخبرني خالي الخبر مرة واحدة. قال إن محمد أخي مصاب. سألته: والباقي؟ عاد ليصمت. قلت: ماما بخير يا خالو؟ أجاب: الله يرحمها. توقف الزمن هنا بالنسبة لي. ثم انتابني شعور أن مهند أيضًا أصابه أمر ما. سألته عنه، فقال: استُشهد. عدت أتوسل إليه أن يخبرني أن ذلك كله ليس حقيقة."

وقفت لثوانٍ تستوعب المكالمة، لتودّ في تلك اللحظة أن تكون طائرًا لتصل إلى البيت. أخذت تركض بين أزقة حي الشجاعية حتى وصلت إلى سيارة أقلّتها إلى حي الشيخ رضوان. وأخيرًا وصلت لترى الشقة أثرًا بعد عين، لم تكن بالأصل شقة بل جدران محترقة وسقف متآكل، بعدما فجّرها الاحتلال إثر مداهمتهم البيت قبل عام من استهدافه.


اقرأ أيضًا: فادي لم يهد.. وكل الطرق تؤدي إلي قهر الغياب


تضيف بصوت مختنق: "لمحت شقيقتي الكبرى بين الرماد. سألتها: وين إمي ومهند؟ كنت ما زلت أملك الأمل أن يكون كل هذا وهمًا. ولكنها قالت بصوت خفيض: ماما راحت، وفداء وبنتها سيلا. احتضنتها، ثم لمحت شقيقي يجلس على ركبتيه. احتضنته، فلم أجد أي كلمة تواسيه، إذ فقد أمه وزوجته وابنته معًا."

لم تستطع أبرار أن تلقي نظرة الوداع الأخيرة على أحبابها، فثلاثتهم كانوا أشلاء لا معالم لهم. أما والدتها، فبجثة شبه كاملة، قالت: "أريد وداعها." لكن لم يسعفها الوقت للوصول، إذ كانوا قد انتهوا من صلاة الجنازة، وفي الطريق ليواروهم الثرى. تمنت في تلك اللحظة لو ابتلعتها الأرض قبل أن تفارقهم.

في ذكرى الرحيل... صدمة ثانية

حرب الإبادة الجماعية في قطاع غزة.jpg

لم تقف عجلة الفقد عند ذلك الحد، بل أصرت على خطف أرواح أخرى من العائلة. ففي الذكرى الأولى لفقد الوالدة والأخ وزوجة الأخ وابنتها، استُهدف منزل شقيقتها سمر، لترتقي رفقة زوجها يونس، وابنة شقيقها نايا التي تولّت رعايتها بعد استشهاد والدتها.

تضيف أبرار لبنفسج: "كان خبر استشهادها صدمة بالنسبة لي. قبل ارتقائها بأيام قليلة، كنت أهاتفها. أخبرتني عن رؤيا في منامها، قالت إنها رأت الناس ينزحون بشكل كبير، وعملية احتلال غزة على وشك البدء، وإذ بأمر من عند الله يُنهي كل شيء، ليس صفقة ولا اتفاقًا، بل سببًا من عند الله جعل الاحتلال يوقف العملية، الأمر الذي ترتب عليه توقف النزوح جنوبًا."

وتردف: "كانت تخبرني عن فرحتها بالرؤيا، وأنها استيقظت وهي تردد: الحمد لله، ما رح ننزح! وظلت تدعو الله أن تتحقق رؤياها وأن يرسل من عنده ما يوقف كل هذا الجنون. وأظنها تحققت، فقد اصطفاها الله وزوجها ونايا قبل أن يُكتب عليهم النزوح ومرارته."

رحلت سمر مع زوجها الرجل الشهم، الذي عهدته أبرار صاحب نخوة، لم يحتاجوه يومًا إلا وكان مبادرًا سابقًا. حينما وقفت سمر وقالت: "سآخذ نايا لتربيتها"، شجّعها وقال: أهلًا بالابنة الجديدة.

تقول أبرار: "كان عمر نايا آنذاك عامًا وثلاثة أشهر، تعلّقت بها جدًا وكانت تناديني ماما. خلال عام كامل مرّت سمر ونايا بالكثير من المواقف، تثير الضحك أحيانًا وتدمع القلب أحيانًا أخرى. نشأت علاقة بينهما ليست فقط بكونها عمتها، بل كأم بكل ما تحمله الأمومة من مشاعر وحنان."

سمر كانت أمًا لطفلين: رهف (6 سنوات ونصف) وغسان (4 سنوات ونصف)، ترى فيهما الحياة كلها، تقول عنهما دائمًا: "هؤلاء هم إنجازي في الحياة." كانا طفلين مؤدبين، تربيتهما صالحة على الأخلاق والدين. رحلت وتركتهم أيتامًا يعانون ألم الفقد.


اقرأ أيضًا: مصرية وفلسطيني: عن فراق الحبيب حيًا وميتًا


أما والدة أبرار تعرفها، أ. منال جمعة صنع الله (60 عامًا)، معلمة رياضيات في وزارة التربية والتعليم منذ 29 عامًا. سيدة بسيطة جدًا، هادئة بالكاد يُسمع صوتها، معطاءة لأبعد الحدود. تقول أبرار: "أمي إنسانة استثنائية بكل معنى الكلمة، قوية في مواقفها، حنونة في قلبها، تحمل همومنا جميعًا وتُخفي تعبها بابتسامة صادقة."

تضيف: "فقدت أمي خلال الحرب قبل ارتقائها 10 أقمار من عائلتها دفعة واحدة (أختان، 4 أبناء إخوة، 3 أبناء أخت، زوج أخت) في مجزرة ارتكبها الاحتلال بعد قصف منزل خالتي الذي ضم عددًا من النازحين. كما فقدت عددًا من صديقاتها وزميلاتها في العمل."

وتكمل: "في أواخر ديسمبر 2023، اقتحم الاحتلال منزل أهلي وأخرجنا منه بعد احتجازنا لساعات. خلال الاقتحام، اعتقلوا والدي وظل معتقلًا قرابة 40 يومًا، لم نعلم عنه شيئًا طوال تلك الفترة، ثم أفرج عنه في رفح جنوب القطاع، وكانت الطرق مغلقة، فعاش كل منا في مكان: نحن في الشمال ووالدي في الجنوب."

كانت والدتها تزرع شتلات فلفل وطماطم في أحواض صغيرة بالمنزل، تعتني بها كما لو كانت أبناءها، وتفرح جدًا حين ينبت "قرن فلفل" جديد. حين رأت أول زهرة لشتلة الطماطم، انتظرت أن تتحول إلى ثمرة، لكن الاحتلال لم يمهلها لتحصد ثمارها.

في سيرة العائلة

حرب الإبادة الجماعية في غزة.jpg

أما شقيقها مهند (20 عامًا)، فكان يدرس البرمجة، وحصل على تقدير امتياز مع مرتبة الشرف للفصل الأول، لكن الله اصطفاه لشهادة أعظم. كان شابًا مرحًا، شغوفًا، مقبلًا على الحياة. حلم بزيارة تركيا بعد انتهاء الحرب، لكنه لم يُمهل، فاغتالت الصواريخ أحلامه قبل أن تولد.

وفداء (23 عامًا)، كانت هادئة بطبعها، قليلة الكلام، مستعدة للصمت أيامًا. يوم استشهادها، كانت تتهيأ لزيارة أهلها بعد شهر من الغياب، لكن صاروخًا غادرًا غيّر وجهة الرحلة إلى الجنة. ابنتها سيلا (عامان) كانت ترى في حضن جدتها عالمها الخاص. كانت تزيح إخوتها عنه وتطلب نجدتها، بينما تضحك جدتها وتلبي رغبتها.

تقول أبرار: "رحل الأحبة وما زلت أبكيهم كل ليلة. لا أنسى يوم ارتقائهم، كنت أحاول الاتصال بأختي الصغيرة لكن رقمها خارج التغطية. اتصلت بمهند، فضحك وقال: يلا جهزلي فنجان القهوة عدي وصلك... لكن ما زبطت معك هالمرة. ضحك كثيرًا. صوت ضحكه لا زال يرن في أذني. بعد 4 ساعات تلقيت نبأ استشهادهم."


اقرأ أيضًا: ميساء مقداد: الكفن الذي كان ثوب العيد لأبنائي الأربع


وعن نايا، ابتسمت أبرار ثم اغرورقت عيناها بالدموع، تقول: "كانت تضحكني بعفويتها. في لحظات القصف تركض نحو أقرب حضن وتتشبث به. براءتها كانت قادرة على إعادة البسمة حتى في أصعب الظروف." التقتها قبل استشهادها بعشرة أيام، حاولت التقاط صور معها، لكنها كانت مشاغبة، كلما رأت نفسها عبر الكاميرا تضحك وتقوم بحركات مضحكة، فرِحة برؤية نفسها.

تختم أبرار حديثها لبنفسج: "قبل استشهادهم كانت أمي تنتظر حل أزمة المياه في منطقتهم. وعندما نجحوا سعدت جدًا، لكن في العصر قُتلت السيدة الحنون قبل أن تنفذ مخططاتها البسيطة."