ثمّة أحاديثُ سمعتُها كثيرًا في جلساتٍ نسوية تتفقُ فيها المتعلمة وغير المتعلمة، كما وصلتني توصيّات مثقلة باللوم، وأخرى مدججّة بالحرص والخوف، كان الانفعال يبدو واضحًا عليّ في كل مرة تنسكبُ دموعي فجأة كمطرٍ يهطل من السماء إذ تفقع سحاباته المثقلة، كامرأة تؤمن بأننا خُلقنا لنكون في المتن لا على الهامش.
لم أفكر حينَها في المبدأ الذي يقول استفتِ قلبكِ يفتيكِ، لكن كان يحزّ في نفسي ذلكَ التّوجيه بإيجابياته وسلبياته، لتلك المرأة التي يُراد لها أن تعيش حياة غير التي خُلقت لأجلها، ثم تراودني الحيرة حول هدف الناس من إملاء الأحكام والأفكار دون أن يفكروا في مدى تأثيرها على الكثير من النسوة، كما أتعجب من رغبتهم المستمرة في التأثير على خياراتها، كأنه لا يكفي ما تصنعه اليوم وسائل الإعلام ومشاهد الدراما من تحولات وتقلبات في خيارات وأذواق حواء هذا العصر، ناهيك عن إفرازات مواقع التواصل الاجتماعي التي تعبّر عن واقع غير حقيقي بل ومصطنع إلى حد كبير، توهُم في المرأة، وتُستعمل كسلعة بالدرجة الأولى.
اختيارُ علاقاتِنا، توجهاتُ تخصصاتنا، مصائرنا، المهنُ التّي نختارُها أو لا نختارُ غيرها، قبولُنا لشريك الحياة بشكلٍ يتناسبُ وأرواحنا، طقوسُ الخطوبة التّي نختارُها، مهورُنا، مراسيمُ الزّفاف أو التخرّج، مشاريعُنا التّي ننطوي تحتَها، انتماءاتُنا الأيديولوجية والفكرية، كتُبنا التّي نقرأها، الوسائل التي نمتطيها، مختلف قراراتنا، أوقاتنا، أهدافنا، أحلامنا، مساعينا، حتى أسماء حساباتِنا على مواقع التّواصل، الشكل الذّي يروق لنا أن نكونَ عليه، تعاملاتنا التّي نحبّها، وغيرها مما هو أعمق وأهم وأكثر، ولتكن جميع تفاصيل حياتنا.
هي خياراتٌ نحدّدها كما نرغبُ نحن، وبالشكل الذي يتناسبُ ورغباتنا، وليس علينا أن ننصاع لسياقٍ تجتمع فيه القوالبُ المعنوية والمادية التي يرسمها المجتمع، استهلاكًا حديثًا، أو تمّ توارثها حتّى اتخذت موقعًا ثابتًا مسلّمًا به. صديقتِي، أنا لا أحدد من تكونين، وكيف يجبّ، لأنني إذا فعلت سأجعل منك امرأة مقولبة بشكل لا يستوعب أسلوبك في الحياة، لكنني أذكرك من هذا المنبر، أن تحترمي ما تريدين، فتسلمي شرّ التنجيم الذي يعيشه أبناء المجتمع، وأتذكر في هذا السياق مقولة مفادها ''رِضا النَّاسِ غايةٌ لا تُدركُ، ورِضا اللهِ غَايةٌ لا تُتركُ، فاتركْ ما لا يُدركُ، وأَدركْ ما لا يُتركُ".
اتبعي السيئة بالحسنة تمحُها، واصنعي حياتك بطريقتك، بمقادير معرفة تحسنينها كل يوم، وتطورات تعايشينها باستمرار، تضيفين عليها لمسة التجارب التي تلقنك دروسًا واقعية، لكي تتغيري نحو الأحسن بما يلائم شخصك ونمطك، بعيدًا عن ترّهات المجتمع قال أو يقول، دليلُك في ذلك قوله تعالى (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ).
إننّا وببساطة لسنا مجبرين على فعل ما يحلو لفلان وعلاّن، حدودنا والأشخاص التي تقرر معنا وتشاركنا الرأي، والمشورة نحن من نحددها، ليس من حق عامة المجتمع الإقرار بشأنها، كان يجب أن نركز دائمًا على الأهم، في بواطننا ما نحتاجُ إصلاحه، وفي المجتمع ما يحتاج إعادة صياغته بما يتناسب مع الدين الذي خلق للحياة وللمجالات جميعها.
من للمجتمع إذا كنا الغريقين المنهارين أمام أول عتباته وعوائقه؟ من للإصلاح إذا ضعنا بسهولة أمام المغريات التي تصور المرأة بشكل تقليدي، يكفي أن يناسب مفهوم الذكورية السائدة وعبودية العصر الحديث، كان لزامًا أن نتذكر ولا ننسى أن نغرس ونسقي لنزهر ونحققّ مسيرة استخلافنا في الأرض حتى آخر لحظة.
يقينًا، ليس ثمّة طرق مفروشة بالورد، بل طرقًا أنتِ تحدّدينها على خارطة الأيام، تكتشفينَها مليئة بالمصاعب والأشواكِ، نُقبّل كل صباح فيها أحلامنا المعلقة على نواصيها، تبكيكِ كثيرًا وتسقطكِ مرارًا، لكنّها ستعلمّك كيفَ تختطفين الحياة، فتجيءُ إليك مرغمةً، لأن الاختبار الحقيقي يقاس بقوة الشخصيّة، بالبصيرة والنفسِ المشحونة بالإيمان القوي وقدسية رسالتك، بإصرارك وقوتّك التي تقودك لعجلة الحياة الرّسالية مرة أخرى، ويكونُ الافتخارُ بك عنوانها.
فلتتبوئي مراتبَ التأثير فيه لا الانصياع لمغالطاته، أنتِ نونُ النسوة التّي تصنع مجد المجتمع لا الذوبان فيه.
صحيحُ أننا نحتارٌ في بعض الخيارات والآراء والعادات المجتمعية التّي تواجهنا كلّ يوم ونحن نتجه نحو مسيرة الإعداد والإصلاح، ولا ضير من بعض التقبّل لها في إطار المعقول، ولكن الضيرُ هو تتوقفي لأجلهم، أن تضعفي بسببهم، أن تلبسي لأجلهم، وتتزوجي انزعاجًا منهم، وتدرسي كما يحلو لهم، وترهقي كاهل زوجك وأهلك لتكوني على النّحو الذي يكونون عليه، تتطلقين حتى بسبب المجتمع، وتتذمّرين من مولودة أنثى وغيرها، وتربين بالشكل الذي يريدون أن يكونوا أطفالك عليه، وأن تعاملي من حولك كما يحلو لهم، وغيرها الكثير.
فلتتبوئي مراتبَ التأثير فيه لا الانصياع لمغالطاته، أنتِ نونُ النسوة التّي تصنع مجد المجتمع لا الذوبان فيه، ولتدركي أن الخيارات التّي تنطلقُ من ذاتكِ ومبادئك وتعاليمِ دينك ستولدُ منتصرة، أما التّي يمليها عليكِ غيرُك فتولد مشّوهة ميتة حتّى، ولتصنعي أنموذج النضال سعيًا نحو التّمكين للأجيال، بفهمكِ النيّر، وكفاحك الطويل، وصمودِك الآسر لبناء الإنسان.