بنفسج

من السحور للفطور.. يومٌ رمضاني في سجن الأسيرات الفلسطينيات

الثلاثاء 04 ابريل

كنتُ أستمع إلى كلمات الأغنية الرمضانية سنة الحياة حتى وصلتُ إلى المقطع الأخير: "نتمنى لحظة تجمعنا بحبايبنا"، ولا أنكرُ أنَّه أكثر المقاطع تأثيرًا في داخلي، فكم أمنية بقيتْ عالقة عند حشرجات صوتنا ونحن نبكي للقاء كل الغائبين، أن نجتمع بهم على مائدةٍ واحدة، نرفعُ أيدينا قبل آذان المغرب ونحن ندعو بكل أمانينا، أن نتسابق معًا للوصول إلى صلاة التراويح، والترويح عن أنفسنا بجلسةِ السمر مع "قطايف القشطة والتمر"، والكثير من الحكايات التي لم تكن تنتهي إلَّا لضرورة النوم قبل موعد السحور.

تخيل أن تصبحَ هذه الطقوس "مجرد أمنية"، وما أبعد تحقيقها وما أقسى ذكرياتها! هذا ما عاشته الأسيرة الفلسطينية بشرى الطويل وهي تُقلِّب دفتر ذكرياتها في سجون الإحتلال الإسرائيلي، فما بين السؤالٍ والسؤال كانت تنهيدةُ الشوق سيدة الحديث، فقد حُرمت بشرى لمدة 6 سنوات من قضاء شهر رمضان المبارك بين أحضانِ عائلتها، بسبب استمرارية اعتقالها بين فترةٍ وأخرى في سجون الاحتلال.

يوم رمضاني في السجن

لا يمكن أن تُخفي الأسيرة المحررة بشرى الطويل شعور اللحظة الأولى، وهي تجلس برفقة بعض الأسيرات قبالة التلفاز ينتظرن خروج مفتي فلسطين ليُعلن عن رؤية الهلال، والبعض الآخر من الأسيرات يتسابقن إلى الراديو ليسمعن تهنئة عوائلهن".
 
"فبالتأكيد رغم كل هذا الحزن، كان لا بد للأسيرات أن ينتزعن فرحة قدوم خير الشهور، ويبدأن في التخطيط معًا ليشعرن ببهجة هذه الأيام ، ويكسبن أجرها العظيم ، تبدأ هذه الخطة بتفويض ممثلة الأسيرات للحديث والتنسيق مع إدارة السجن للسماح لهنَّ بالإفطار في الساحة، وغالبًا ما كانت موافقة الإدارة لمدة ربع ساعة فقط من آذان المغرب على أن يكون الإفطار جماعيًا بين غرفتين أو ثلاث غرف فقط.

"من أين نبدأ؟ فكلُّ ما يمكن أن أصفه من كلمات لا يصف المشاعر المختلطة التي تلفعنا بها تلك الليلة التي يُعلن فيها عن دخول شهر رمضان المبارك، كنَّا نجلس وعيوننا تُداري دموع الشوق، فكنتُ دائمًا أقول: في مثل هذه الليلة كانت أمي تفعل كذا وكذا، وأبي يصلي بنا من سورة كذا إلى سورة كذا، كنتُ أحبسُ هذه الحسرة في قلبي وأحوِّلها إلى دعاء: يا ربَّ اللقاء، اكتب لي رمضانًا برفقة عائلتي".

لا يمكن أن تُخفي الأسيرة المحررة بشرى الطويل شعور اللحظة الأولى، وهي تجلس برفقة بعض الأسيرات قبالة التلفاز ينتظرن خروج مفتي فلسطين ليُعلن عن رؤية الهلال، والبعض الآخر من الأسيرات يتسابقن إلى الراديو ليسمعن تهنئة عوائلهن".
 
"فبالتأكيد رغم كل هذا الحزن، كان لا بد للأسيرات أن ينتزعن فرحة قدوم خير الشهور، ويبدأن في التخطيط معًا ليشعرن ببهجة هذه الأيام ، ويكسبن أجرها العظيم ، تبدأ هذه الخطة بتفويض ممثلة الأسيرات للحديث والتنسيق مع إدارة السجن للسماح لهنَّ بالإفطار في الساحة، وغالبًا ما كانت موافقة الإدارة لمدة ربع ساعة فقط من آذان المغرب على أن يكون الإفطار جماعيًا بين غرفتين أو ثلاث غرف فقط.

اقرأ أيضًا: تهاني العويوي : الأسر ليس غصة قابلة للاعتياد


"كنَّا نحاول ألَّا نفوِّتَ أي دقيقة من هذه الفرصة، فصوت الهمس الصادر من دعوات أخواتي الأسيرات وهنَّ يرفعنَ أيديهن قبل آذان المغرب، كان بمنزلة طمأنينة وعوض من الله لي، كنتُ أحبُّ كلَّ الضجة التي أسمعها ونحن نفطر، فما بين صوت المعلقة تتحركُ بين الصحون، وما بين أختٍ تُنادي للحصول على كأس عصير، وأخرى تمدحُ رائحة الشوربة التي صُنعتْ ببساطة". تستذكر بشرى تلك اللحظات وهي تضحك من كلِّ المحاولات التي انتزعتها الأسيرات من أجل الشعور بشيءٍ يشبه رمضان العائلة.

مائدة الأسيرات 

inbound7645908075388416706.jpg
بشرى الطويل مع عائلتها

ماذا عن قائمة الفطور وطقوس تحضيره؟ فعند حديثنا عن الأشياء المميزة في هذا الشهر الفضيل، لا بد من أن نذكر بعض الأطباق المميزة التي تتزين بها موائدنا، لكن ماذا عن مائدة الأسيرات؟ "نحاول قدر الإمكان أن نعد مائدةً تشبه مائدة عائلتنا خارج الأسر، فنبدأ بتحضير اللوازم الأساسية للفطور، وغالبًا ما كنَّا نعد شوربة الشعرية أو شوربة الخضار ونحدد نوع الشوربة بناءً على اللوازم المتوافرة لدينا، أمَّا عن الطبق الأساسي فكنَّا نُحصي المكونات المتوافرة لدينا ونصنع منها فطورًا، فمرة يكون لنا النصيب في إعداد "صينية الخضار" ومرةً نعد المقلوبة، ومرةً أخرى نصنع طبقًا جديدًا بإبداعٍ مختلف، فالعامل الأساسي في اختيار نوع الطبق هو توفر المواد اللازمة لتحضيره.

"وأما عن كيفية توفير هذه المواد، تتابع بشرى حديثها: "قبل بداية شهر رمضان كنَّا نذهب "للكانتينا" لتجهيز الأمور الأساسية التي كنَّا نطلب من إدارة السجن توفيرها قبل فترة من بداية شهر رمضان الكريم، مثل التمر الذي لم يكن لنا أن نشق إفطارنا دون وجوده اقتداءً بسنة الحبيب المصطفى -صلى الله عليه وسلم-. اضافة إلى هذه الحاجيات كنَّا نعد قائمةً باللوازم التي توفِّرها لنا إدارة السجن مثل: الأرز، وكنَّا نحرص على تخزين هذه المونة حتَّى لا ننقطع منها إن طرأ أي طارئ علينا خلال شهر رمضان".


اقرأ أيضًا: حضنٌ وقبلة.. من يؤتِي تأويلَ حلم الأسيرة فدوى حمادة؟


وأمَّا عن أكثر اللحظات قربًا من قلبِ بشرى، صوتُ الأسيرات وهن يتجهَّزن استعدادًا لصلاة التراويح: "لا يمكن أبدًا أن أنسى شعور تلك اللحظات الروحانية، وكلّ أسيرة تأخذ مكانها لبدء صلاة التراويح، كنَّا نُجهِّزُ أدعيتنا تمامًا كالمسافر الذي يحزم كلَّ أمتعته المهمة لئلا ينسى شيئًا، كنَّا نشعر بذات الشعور ونحن نرتب كلَّ دعواتِنا لنبوحَ بها لله سبحانه وتعالى".

كان اختيار الأسيرة التي ستؤدي مهمة الإمامة، يعتمد على عوامل عديدة، وأهمها: أن تكون ذات صوتٍ حسن، وتلاوةٍ مجوَّدة بالأحكام ، وكان غالبًا ما يقع الاختيار على بشرى وأسيرةٍ أخرى، فكانت بشرى تصلي أربع ركعات وتُسلِّم لصديقتها الأُخرى الإمامة لتتابع الأربع ركعات المُتبقية.

مواقف لا تُنسى

 

تتابع بشرى وتُحدِّثني عن أكثر المواقف التي أثَّرت فيها خلال السنوات التي عاشت فيها شهر رمضان في السجن، فأكثر تلك الذكريات كانت عندما اقتحم المستوطنون ساحات المسجد الأقصى واعتُدي على المُصلين، وبدأت الحرب على قطاع غزة خاصةً عام 2021، وأصبح الكلُّ في ترقب للأحداث ولا سلاح لهم إلا الدعاء: يا رب سلِّم غزة والقدس.

كانت هذه الأحداث وجعًا وخوفًا في قلوب كل الأسيرات وهنَّ يُشاهدن انتهاك حرمة المقدسات، وسفك دماء الأطفال والنساء وهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها. "كنَّا نبكي قهرًا وندعو دعاء العاجز عن فعلِ شيءٍ آخر". 

تتابع بشرى وتُحدِّثني عن أكثر المواقف التي أثَّرت فيها خلال السنوات التي عاشت فيها شهر رمضان في السجن، فأكثر تلك الذكريات كانت عندما اقتحم المستوطنون ساحات المسجد الأقصى واعتُدي على المُصلين، وبدأت الحرب على قطاع غزة خاصةً عام 2021، وأصبح الكلُّ في ترقب للأحداث ولا سلاح لهم إلا الدعاء: يا رب سلِّم غزة والقدس.

كانت هذه الأحداث وجعًا وخوفًا في قلوب كل الأسيرات وهنَّ يُشاهدن انتهاك حرمة المقدسات، وسفك دماء الأطفال والنساء وهدم البيوت فوق رؤوس ساكنيها. "كنَّا نبكي قهرًا وندعو دعاء العاجز عن فعلِ شيءٍ آخر". 

لم تسلم الأسيرات أيضًا من هذه الأحداث، فمع كلِّ انتهاكٍ وحدثٍ رمضاني في القدس، كانت إدارة السجن تُعاقب الأسيرات بمنع أي فعالية وإلغاء أي تسهيلٍ أُعطِي لهم كالإفطار الجماعي وغيره.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


لم تنتهِ الحكاية إلى هنا، فالشعور كله كان في حماسِ بشرى، وأنا أتحدث معها وهي تروي لي شعورها عن أولٍ رمضانٍ ستقضيه في حضن العائلة، فبعد 6 سنوات من الحرمان، ستدخل بشرى هذه المرة إلى المطبخ ويدها على يد أمِّها تُجهز مائدة الإفطار، ستُشاكِسُ بشرى أطفال العائلة وهي تستحوذ على فوانيسهم، تلتقط الصور وتغني بصوتٍ عالٍ: "حالو يا حالو".

 ستفطر بشرى هذه المرة على صوت مؤذن حارتها وهو يتداخل بصوتِه مع أصوات المساجد الأخرى لِيُعلن فرحةَ كل الصائمين. في هذا العام وفي ليلة رؤية هلال الشهر المبارك ستخرج بشرى لتحتضن كلَّ صديقاتها بحضن كل السنوات السابقة، فبشرى اليوم معكم على مائدةٍ واحدة تحت وسع سماء الله.