بنفسج

نهيل ومحمد عصيدة: رفيقان جمعهما الدرب وفرقهما الاحتلال

السبت 30 سبتمبر

"تبقى يومان على حفل تخرجنا،وبدأنا نوزع دعوات تخرجنا من الماجستير على الأحبة..  وقبلها كنا زميلين، خضنا مرحلة البكالوريوس سويًا، وبعدها أصبحنا شريكين في كل شيء وخضنا معاً غمار الحياة ، وها أنا اليوم أجلس هنا وحيدة!

لطالما تخيلنا هذه اللحظة وانتظرناها، ولكن جاء من يسرقها منا، جاء الاحتلال وأخذ مني زوجي محمد وحرم كلينا من هذه الفرحة.!". ولم تستطع نهيل أن تكمل جملتها، ودموعها تسبق كلماتها.

هكذا وصفت الصحفية نهيل عصيدة، زوجة الأسير محمد نمر عصيدة، لحظة من لحظات العمر التي عاشتها بدون زوجها محمد، لتردف لنا خلال هذا الحوار مسيرة حياتها مع زوجها المعتقل الإداري لدى قوات الاحتلال، والذي يعتقل بشكل متكرر ولفترات طويلة منذ زواجهم.

حكاية الاعتقال لــ محمد عصيدة

أعتقل محمد منذ ارتباطه بنهيل 5 مرات ، مرة قبل زواجهم، قضى فيها 33 شهرًا، والثانية كانت بعد سنة ونصف من الزواج قضى فيها عامين، ومن بعدها  اعتقال لمدة 18 شهرًا، وبعدها بدأت دوامة الاعتقالات الإدارية التي يقضي محمد الآن إحداها.
 
عن الاعتقال الأول بعد زواجهما تخبرنا نهيل: "كنا نحضر لعيد ميلاد ابنتي الأولى وفاء، إلى جانب استعدادنا لحفل تخرجنا الذي كان بعد يومين، كان وقتًا مليئًا بالبهجة ، في صباح اليوم التالي، ودعت محمد الذي كان ذاهبًا ليؤدي أحد الامتحانات النهائية في كلية الدراسات العليا، وكان طالبًا فيها بتخصص إدارة تربوية، ولكن لم يصل محمد للامتحان".

درست نهيل - 32 عامًا -  الصحافة في جامعة النجاح الوطنية ، وهي اليوم أم لخمسة أطفال أكبرهم 11 عامًا، وأصغرهم 11 شهرًا (وفاء الأحرار، و نمر، و رهف، و عبدالرحمن، و زيد) ، ارتبطت بزوجها محمد في عام 2011، كانت وقتها تدرس، وكذلك زوجها في ذات الجامعة والتخصص، وكلاهما من قرية تل قضاء نابلس.

كانت نهيل تعلم عن محمد الكثير قبل أن يتقدم للارتباط بها، بحكم أنه زميلها وجارها، وكذلك كونه مقربًا من إخوتها، فتقول: "عندما تقدم لي محمد وجلسنا سويًا، قبل عقد القران، أخبرني عن اعتقالاته السابقة التي تعرض لها وامكانية تكررها، وهذا ليس حال محمد فقط، بل حال الكثير من أبناء فلسطين، ولذلك كان وما زال فخرًا لي الارتباط به، بل أني أعتبرها ميزة أن أرتبط بشخص يدافع عن أرضه، بعقيدة ويحمل هم وطنه وشعبه".

أعتقل محمد منذ ارتباطه بنهيل 5 مرات ، مرة قبل زواجهم، قضى فيها 33 شهرًا، والثانية كانت بعد سنة ونصف من الزواج قضى فيها عامين، ومن بعدها  اعتقال لمدة 18 شهرًا، وبعدها بدأت دوامة الاعتقالات الإدارية التي يقضي محمد الآن إحداها، حيث أمضى حتى الآن 22 شهرًا في الاعتقال الإداري.


اقرأ أيضًا: قاسم وإيناس عصافرة: زوجان في زنزانتين


عن الاعتقال الأول بعد زواجهما تخبرنا نهيل: "كنا نحضر لعيد ميلاد ابنتي الأولى وفاء، إلى جانب استعدادنا لحفل تخرجنا الذي كان بعد يومين، كان وقتًا مليئًا بالبهجة ، في صباح اليوم التالي، ودعت محمد الذي كان ذاهبًا ليؤدي أحد الامتحانات النهائية في كلية الدراسات العليا، وكان طالبًا فيها بتخصص إدارة تربوية، ولكن لم يصل محمد للامتحان"، فقد كان ينتظر كلانا امتحانًا أصعب وأشد في سبيل الله والوطن، إذ اعتقلت قوات الاحتلال محمد وهو في طريقه إلى الجامعة واقتادته إلى مركز التحقيق".

لم يكتف الاحتلال وقتها باعتقال محمد، بل اقتحموا البيت على نهيل وفتشوه وعاثوا فيه خرابًا، كانت فترة عصيبة على نهيل،  فتقول: "لم أفترق عن زوجي منذ ارتباطنا أبدًا، واليوم أنا وحيدة من دونه بصحبة طفلة صغيرة، والكثير الكثير من الاجراءات، والمحاكم والزيارات والأخبار الضئيلة، ويخيم عليها الليل الطويل والقلق والوحدة والمسؤولية".

الاعتقال الأصعب

1-50.jpg
الأسير محمد عصيدة وزوجته وأطفاله

يظن المرء في بداية كل طريق أن الضربة التي تأتي تكون الأصعب، فلم يعتد من القبل على تلقي مثيلاتها، ولكن يتفاجئ في كل مرة أن العقبات والصعوبات مع التقدم في الطريق تكون أصعب وأشق، فتقول نهيل: "كنت أظن أن الاعتقال الأول هو الأصعب، ولكن تبين لي لاحقا ً أنه الأسهل من بين جميع اعتقالات محمد التي تزداد مع الوقت، فقد أصبح هناك أطفال يشتاقون لوالدهم ويسألون عنه، أصبح هناك مسؤوليات أكبر، عدا أن التكرار في الاعتقالات شاق على القلب، فلم يعد أصلب، كما يظن الناس، بل يصبح أرق وأوهن".

لطالما عاشرت وصادفت نهيل زوجات الأسرى وواستهن وخففت عنهن، ولكن تجربة الألم أبدًا ليست كالحديث عنه أو الاستماع لضحاياه، تقول نهيل: "لطالما سمعت عن الأسر والاعتقالات ومن بينها الاعتقال الإداري، ولكن لم أعلم أن لكل اعتقال مرارته وألمه الخاص، فالاحتلال يتفنن في تعذيب شعبنا، هذا الاعتقال الإداري الذي نعاني منه أنا وزوجي ، هو وسيلة لقتل الأمل والحماس الذي نعيشه في كل مرة يقترب فيه الإفراج عن الأسير، ليتم تجديد الاعتقال له في اللحظات الأخيرة بعد التحضير للإفراج عنه".


اقرأ أيضًا: سيما متولي: خلسة العيش بعيدًا عن قبضة السجان


تضيف نهيل: "يعاني أطفالي إلى جانبي من هذا الاعتقال، وربما أستطيع كبح مشاعري، وتصبير نفسي والتهوين عليها، بفضل الله، ولكن ماذا عن طفل كله شوق لوالده يبدأ بتجهيز نفسه ونفسيته للإفراج عن والده، أبدأ أنا بمشاركتهم الفرح، وأنا أكتم في نفسي خوفًا وقلقًا، ليقتل تجديد الإعتقال كل أحلامنا وأفراحنا من جديد، تاركًا لقلوبهم الصغيرة والهشة الحزن والعجز والقهر".

أبناء الأسرى: "وين بابا"

"ليش بابا مش معنا زي كل الناس؟ ليش الناس مش زينا ولا إحنا زيهم؟ وينتا بدو يظل بابا جمبنا، وما يرجع ينحبس كمان مرة". كثيرة هي الأسئلة التي وقفت نهيل عاجزة أمامها، لطالما أخبرتهم أين والدهم، ولماذا يسجن ، ولكن لم تشف هذه الأسئلة قلوبهم المشتاقة لوالدهم، ولا تخفف عنهم وطأة غيابه.

تحاول نهيل في ظل هذا الوضع أن توفر لهم كل ما يحتاجونه في سبيل تعويض حاجتهم لوالدهم، تمنحهم الحنان والعطف، إلى جانب الارشاد والحزم لتعبئه مكان الأب، ولكن لم يغنهم ذلك ولو لحظه عنه.

"ليش بابا مش معنا زي كل الناس؟ ليش الناس مش زينا ولا إحنا زيهم؟ وينتا بدو يظل بابا جمبنا، وما يرجع ينحبس كمان مرة". كثيرة هي الأسئلة التي وقفت نهيل عاجزة أمامها، لطالما أخبرتهم أين والدهم، ولماذا يسجن، ولكن لم تشف هذه الأسئلة قلوبهم المشتاقة لوالدهم، ولا تخفف عنهم وطأة غيابه.

 تقول نهيل: "ليس هناك أشد من كلمة بابا التي ينطقها الطفل لأب غير موجود قسرًا ، وخطواته الأولى دون أن يمسك بيد اباه ليساعده ، دخول الروضة أو المدرسة دون أن يرافقه ، لحظة التكريم لحفظ القرآن أو التفوق الدراسي دون أن يبادله نظرات الإعجاب والفخر، هكذا مرت الأيام على أطفالي، وعلى زوجي أيضًا الذي لم يستطع أن يصنع ذكريات كافية معهم، ولا يملك سوى صورهم وهو حبيس الزنزانة".

احتاجت في ذات المرات أن تجري لأحد أبنائها بعد ولادته أيضًا عمليتين جراحيتين دون وجود محمد، الذي كان يحاول أن يكون حاضرًا عبر سماعة الهاتف يطبطب تارة ويواسي تارة، وصوته قد طغى عليه الأنين والحزن مهما حاول إخفاءه، لينفجر باكيًا، وهو يؤذن في أذن ابنه عبر سماعة الهاتف بعد ولادته".

تحاول نهيل في ظل هذا الوضع أن توفر لهم كل ما يحتاجونه في سبيل تعويض حاجتهم لوالدهم تمنحهم الحنان والعطف، إلى جانب الارشاد والحزم لتعبئه مكان الأب، ولكن لم يغنهم ذلك ولو لحظه عنه.

أنجبت نهيل ثلاث اطفال بشكل متفرق خلال وجود محمد في السجن، كان طفلها الثاني نمر أول من عاشت معه نهيل هذه الحاله، إذ اعتقل زوجها وهي في الشهر الثاني من حملها وخرج محمد وقد بلغ عمر ابنهم نمر عام ونصف، تقول: "الإنجاب وحيدة بدون محمد وكل ما تحملت من مشاق الحمل،  كان أهون علي من لقاء نمر ووالده الأول ، فقد رفض نمر والده لفترة طويلة".

Screenshot_٢٠٢٣٠١٢٥-١١٤٠٤١_Gallery.jpg
أبناء الأسير محمد عصيدة

عاشت نهيل ذات التجربة مع أطفالها رهف وزيد أيضًا اللذان أنجبتهما خلال اعتقال والدهما، وظنت أن تكرار التجربة يجعل الموضوع أسهل، ولكنه كان أصعب في كل مرة، فولادتها كانت قيصرية وصعبة، واحتاجت في ذات المرات أن تجري لأحد أبنائها بعد ولادته أيضًا عمليتين جراحيتين دون وجود محمد، الذي كان يحاول أن يكون حاضرًا عبر سماعة الهاتف يطبطب تارة ويواسي تارة، وصوته قد طغى عليه الأنين والحزن مهما حاول إخفاءه، لينفجر باكيًا، وهو يؤذن في أذن ابنه عبر سماعة الهاتف بعد ولادته".


اقرأ أيضًا: أم الأسرى سناء سرحان: حكايا غائرة خلف نفق الحرية


تضيف نهيل: "كان الأطفال الذين ولدوا في غياب والدهم يرفضوه بعد الإفراج عنه، رغم أني كنت أبذل كل ما أستطيع لأحول دون حدوث ذلك، من ملأ البيت بالصور والحديث الدائم عنه وإرسالهم وهم أطفال للزيارات مع جدتهم، بحكم أني ممنوعة من الزيارة ، فيعيشون عذاب الطريق ومشاقها، والإجراءات التعجيزية التي لا تنتهي من طرف الاحتلال، وصولًا للزيارة التي تستمر لنصف ساعة من خلف الزجاج".

من خلف زجاج عازل .. كبر الأطفال

IMG-20230125-WA0000.jpg
السيدة نهيل  زوجة الأسير محمد عصيدة مع أطفالها

على طاولة الطعام يجلس الأطفال منتظرين التقاط الصورة الروتينية التي اعتادوا عليها ليرسلوها لوالدهم، وفي كل مناسبة ينادي أحدهم: "استنوا ما تصوروا بدي أجيب صورة بابا يتصور معنا". أما عن ليلة كل زيارة، فلا مفر من النزاعات التي تتكرر كل مرة : "دوري أروح أزور بابا، خليني أروح كمان مره".

كبر أطفال نهيل ومحمد وبدأوا يتعايشون مع الأمر، ويذللون الحدود التي بناها الاحتلال بينهم وبين والدهم، تقول نهيل: "كما ذكرت سابقًا، كيف كنت أحاول أن أجعل محمد حاضرًا في حياة أبنائه وهم صغار، اليوم هم من يقومون بهذه المهمة، يتسابقون على الهاتف إذا وردت مكالمة منه، ذاك يريد أن يخبره عن عراكه مع زملائه في المدرسة، وتلك تريد أن تخبره عن نتيجة امتحانها، وذلك يحاول أن يتماهى مع إخوته رغم صغر سنه بكلمات غير مفهومة تعرف منها فقط كلمة "بابا".

تضيف نهيل: "في الزيارة لا يتيحون لي المجال للحديث مع والدهم كلهم، يريدون الحديث معه عبر سماعة واحدة تنقل الصوت عبر الزجاج العازل، وذاك الصغير عبد الرحمن الذي لم يبلغ بعد العام ونصف، وقد سمح له الاحتلال بالدخول للداخل ليحتضن والده يقول لي: "اذهبي أريد أن أبقى مع بابا"، نضحك أنا ومحمد وعيوننا غريقة بالدموع".

تبتسم نهيل فيزول كل صعب، تبتسم نهيل فيبتسم ثغر الطفل الحزين المشتاق، تبتسم نهيل فيشتاط العدو غضبًا، تبتسم نهيل فيتسلل الأمل لمحمد، تبتسم نهيل، فيقترب الفرج ويرتاح القلب ويرضى.


اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن


تقول نهيل: "لطالما سمعت عبارة "أكيد تعودتي"، لم أعتد يومًا، بل أن المسؤولية كبرت والصعوبات والتحديات ازدادت، ولكن لطالما واجهت كل هذه الصعوبات بالابتسامة، كنت أفصح عن تعبي وهمي لرب العالمين، وأظهر أمام أطفالي والمجتمع بابتسامة، في الوقت الذي قد يكون الجميع فيه في ضيق".

وتضيف: "دوام الحال من المحال، والأيام دول، سينتهي السجن وكل ذكرياته السيئة، وسيبقى لنا الأجر بإذن الله، وسيضمنا بيت فيه أسرة متكاملة، زوجة مطمئنة بجوار زوجها وأبناء ينعمون بدلال والدهم".