في جنين، وتحديدًا مُخيّم جنين، ذاك المُخيّم الذي أعاد هيكلية المقاومة المُسلّحة في الآونة الأخيرة، والذي صدحت مآذنه "حيّ على الجهاد" مرارًا وتكرارًا، فلبّت النّداء السّيّدة سناء سرحان "أم يوسف"، سمعت النّداء بقلبها ولبّته في تربية أولادها بما يُرضى الله ورسوله والوطن. تُعرّف نفسها أم يوسف بفخرٍ يطوي مرارة القهر الذي صارعناه مع الاحتلال منذ أكثر من ٧٠ عامًا: "أنا أم يوسف شريم، أم الأسيرين (محمود وبركات) والمُطارد "يوسف". أصبح اسمها يتردد بين أمهات الأسرى كمثالًا يحتذى به في الصبر.
أمهات الأسرى: الصبر الطويل
تقول أم الأسيرين: "ربيت أولادي منذ صِغرهم على حُبّ الله والاقتداء برسولنا الأعظم سيدنا محمد صلوات الله عليه، بِحُكم عمل والدهم في الداخل الفلسطيني فكانت مسؤولية تربيتهم تقع على عاتقي بالكامل، فكانت واجهتهم الأولى هي أنا، بقيت معهم إلى أن اعتمدوا على نفسهم، أعطيتهم كُلّ ما أستطيع من صحّتي وعُمري ولو طلبوا عينيّ ما بخلت عليهم".
تحمل في يد صور أولادها الأسرى، وتمسح دموعها في اليد الأخرى، تلك اليد التي كانت تحمل الهاتف في الزيارات، وهي ذاتها اليد التي كانت تلوح للسلام على ولديها في المحاكم، فتمتشق الصبر من بريق عيونهم وتتنهّد ما بين الشهقة والأخرى، ثُمّ تقول أُحِبّهم جِدًّا. لم تتوان السّيّدة سناء عن ذكر أولادها وفضائلهم للحظة، شعورها كان مُمتزِجًا ما بين الفخر والحزن على فراقهم، فخورة بحصادها التي زرعته في نفوس الأبناء، وحزينة على ما عانوه في حياتهم بين جدران السجن وتدعو الله دومًا بأن يفرج كربهم.
تضيف أم يوسف: "أودّ الحديث أولًا عن محمود، فهو الذي جعلني أمشي وأنا فخورة به وبإنجازه في السجن، زادني شرفًا ورفعني قدرًا بين الناس، أينما حللت أُردّد أنا أم محمود، عُرِف محمودٌ في مخيم جنين، بابتسامته المرسومة على مُحيّاه، وبِحُبّه للخير وفعل الخير، كان حنونًا، بسيطًا، يُحِبّ الله ويستودع كُلّ ما يفعله في سبيل الله، راضيًا بالقضاء والقدر، اعتُقل أوّل مَرّة وعمره 18 عامًا، وحُكم بالسّجن مُدّة 4 سنواتٍ ونصف، انتهت فترة اعتقاله قُبيل حادثة النّفق الكبير أو هروب الأسرى الستّة من سجن "جلبوع"، ومن هُنا تغيّرت كُل مُجريات الحياة معنا".
اقرأ أيضًا: من قصص زوجات الأسرى: فصل جديد لعبير زهران
تكمل السيدة التي وقفت في الأمام بين أمهات الأسرى تروي الحكاية: "عندما كنت أزور محمود كان يشحن طاقتي، ويرفع من همتي، ويجدد صبري وإيماني بالله وقدره، كنت كُل مرة أذهب إليه كما الطفلة التي تهرب من الدنيا إلى حضن أُمّها، أعود من الزيارة بهمة جديدة وأمل لا ينضب"
في تاريخ 26/8/2021، كانت آخر زيارة السّيّدة أم يوسف لابنها الأسير محمود شريم، في هذه الزيارة كرّست حديثها عن تحضيراتها لمهرجان استقبال محمود من الأسر، شهر وسيعود محمود لأحضان والدته بعد 4 سنواتٍ ونصف.
تقول أم يوسف شريم: "في آخر زيارة لنا، سألته عن التحضيرات وما يُحبّ أن يكون في استقباله، في مخيم جنين، أخبرني أن أنتظر ولا أحضر أي شيء، وأنّه عليّ أن أصبر، عاودت سؤاله مرّةً أُخرى، ماذا سأطبخ لك؟ أعلم أنّه يُحبّ الأوزي، أجابني جوابًا غامضًا لا تُحضّري الطعام فَلَرُبّما أعود مُتأخّرًا، أخبرته بأنّي حينها سأرسل أحد أشقائه لشراء الشاورما له فطيلة اعتقالك لم تأكلها، لكنّه تحايل علي وأنهى الموضوع".
نفق الحرية!
تقول أم الأسرى: "مثلُنا مثل أيّ فلسطيني استيقظنا فرحين على خبر هروب الأسرى الستة من نفق الحرية، النفق الذي حفره الأسرى بأيدهم، لكنّي عندما عرفت أنهم خرجوا من "جلبوع"، وضعت يدي على قلبي وقلت أعوذ بالله من وساوس الشيطان، اللهم أتمم عليّ فرحتي بحُرية محمود، كان باقيًا على اعتقاله أيام معدودات، لا أعرف لماذا قلت هكذا، ولا كيف نطقت، ولكن قلب الأم!".
وتضيف: "بعد أيام، نُقل محمود إلى التحقيق، كنت أعرِف الأخبار من الفيس بوك أو من نادي الأسير، في أسبوع حُريته أُحيل للتحقيق مرّةً أخرى ومنذ تلك اللحظة تشكّل مُنعطف جديد في حياتنا. في بداية الموضوع كنت أخاف أن يُذكر اسم ولدي، كنت قِلقةً بأن يصيبه مكروه وأن يرفضوا إطلاق سراحه على خلفية الأحداث. وبالفعل جدد الاحتلال الاعتقال لمحمود، وهذا التّجديد ليس تجديدًا إداريًّا، إنّما تجديد على خلفية قضيّة مُعقّدة أربكت الاحتلال بأجهزته!"
"بعد نفق الحرية ظل محمود في عزله عامًا كاملًا، ومارس الاحتلال بحقّه الكثير من الاعتداءات المتكررة من اقتحام زنزانته وتفتيشها، إضافة إلى التشويش عليه وضغطه نفسيًا ناهيك عن الإهمال الطّبّي الذي يعاني منه، لكن كُلّ هذه الإجراءات لم تقهرنا قيد أنمُلة!".
تكمل: "بعد نفق الحرية ظل محمود في عزله عامًا كاملًا، ومارس الاحتلال بحقّه الكثير من الاعتداءات المتكررة من اقتحام زنزانته وتفتيشها، إضافة إلى التشويش عليه وضغطه نفسيًا ناهيك عن الإهمال الطّبّي الذي يعاني منه، لكن كُلّ هذه الإجراءات لم تقهرنا قيد أنمُلة!".
اقرأ أيضًا: مرح باكير: عين أمُها التي اعتُقِلتْ طفلة
تسهب: "عاقبه الاحتلال ورفاقه الذين حفروا نفق الحرية سويًا بتجديد أعوام السجن، في يوم صدور الحكم، في شهر أيار/مايو من هذا العام، كنت أُشاهد المحكمة عبر التلفاز، عندما نطقوا بالحكم عليه مجددًا لـ 4 سنوات ونصف أجهشت بالبكاء، وأُصبت بالانهيار، الحكم لله أولًا وأخيرًا، لكن الشعور بالظلم قاسي وعصيب، كنت أظن أنّهم سيكتفون بالحكم عليهم بالسجن سنة أو سنتين، لكن 4 سنوات ونصف! لماذا؟ ولكن الذي يُثلج الصدر أن الله يختبر عباده الأحب إليه، فاللهم صبّرني".
أمهات الأسرى: أيقونة نضال
تقول السّيّدة سناء سرحان: "فجر 31 من شهر آذار/مارس خلال هذا العام المُنصرم، اقتحم الاحتلال البيت بلا أدنى رحمة، طرقوا الباب بقسوة ولم ينتظروا أهل البيت حتّى يفتحوا الباب، بل قاموا بخلعه. الجنود مُدججون بالسلاح، الكلاب مع الجنود. دخل الجنود كعشّ الدبابير، أحاطوا بالبيت وعاثوا به فسادًا. سألني الضابط ما أسماء أولادك فأجبت محمود وبركات ويوسف وآدم، فقال لي نريد يوسف أين هو. أجابهم والده أنه ليس في البيت، طلب منا أن نتصل به لكننا رفضنا ذلك. فقاموا بضرب آدم وبركات وحتّى ابنتي وحيدتي سلسبيل لم تسلم من ضربهم لأنها دافعت عن إخوتها، نكلوا ببركات وضربوه ومن ثُمّ قيدوه واعتقلوه".
وتضيف: "كُنّا نظن أن اعتقال بركات جاء للضغط على يوسف وأنهم سيطلقون سراحه بعد فترة قصيرة، لكن الاحتلال كان يجدد اعتقاله في كل مرة، إلى أن حضروا له لائحة اتهام، فصرت أُمًّا لأسيرين رضي الله عنهما وأرضاهما. إن كنت سأتحدّث عن شخصية بركات فهو عصبي، لكنه حنون جدًا، لم يكن يُظهر أنّه يُخطط بحنكة عسكريّة، وحتّى الآن لم أعرف ما سبب اعتقال بركات، وماهي الاتهامات التعسفيّة الواقعة عليه".
"يقول الله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا، وأنا أُحب أولادي كثيرًا وهم يحبونني، ولقد قدمت لأولادي كل ما بوسعي وما فعلوه هو حصاد ما زرعته في نفوسهم، فهذه البلاد تطلب مهرًا عاليًا ونحن سنبقى ندفع ونُقدّم إلى أن يُدحر الاحتلال".
تكمل أم يوسف: "قبل اعتقال بركات كنت أُخطط لأخطب لولدي البكر يوسف، والذي شجّعني على ذلك محمود، طلب مني أن أزوّج يوسف لكي يُنجب أطفال يملؤون بيتنا فرحًا، لكن الاحتلال قتل فكرة الفرح في هذا البيت، فيوسف بات يرفض تمامًا فكرة الارتباط لانعدام استقرار حياته وعدم معرفته لمصيرها. فعند اقتحام المُخيّم تنتابي حالة من الخوف والقلق على يوسف، أصول وأجول في البيت أراقب النوافذ أو أفقد الأبواب وعيني لا تفتأ تختلس النظر إلى الهاتف، أقف بين يدي الله وأستودع ابني يوسف وأدعو أن يحميه ويحفظه من كل شرّ".
اقرأ أيضًا: سماح العروج: دفء العائلة تحجبه جدران السجن
وتضيف: "بعد اعتقال ولديّ ومطاردة ثالثهما، لم تعد حياتنا كما كانت في السابق، أفتقد أولادي في كل يوم، في كل وجبة طعام أعددتها وأدرك أنهم يحبونها، حتّى أنّي عزفت عن طبخ ما يفضلوه، في كُل مناسبة كرمضان أو الأعياد في الأفراح أو الأتراح في كل مرة دخلت غرفتهم ورتبتها، لم تعد الأسرة تتكركب".
في نهاية حديثها تقول: "يقول الله تعالى قل لن يصيبنا إلا ما كتبه الله لنا، وأنا أُحب أولادي كثيرًا وهم يحبونني، ولقد قدمت لأولادي كل ما بوسعي وما فعلوه هو حصاد ما زرعته في نفوسهم، فهذه البلاد تطلب مهرًا عاليًا ونحن سنبقى ندفع ونُقدّم إلى أن يُدحر الاحتلال".