بنفسج

حينما انتصر الحب

الثلاثاء 16 مايو

وفي ليلة من ليالي مايو من سنة 2011 نمتُ وبقيت الكرة تضربُ جُدران قلبي، وسبّبت لي ألمًا كبيرًا لم أكن لأبرأ منه قبل أن أنتصر للحبّ.. ولأنّه لم يكن على أحد منهم الهُدى وكان عليهم التذكير، ولأنّ الله يمنّ على من يشاءُ بإذنه رأيتُ في تلك الليلة أنّه يومُ القيامة، وكان النّاس يركضون كالمجانين خوفًا وفزعًا وكُنت لا أقلّ عنهُم فزعًا ولكنّي بقيتُ أبحثُ عن حجابٍ للرأس قبل أن يأتي دوري لأقف أمام ربّ الأربابِ للحساب، فإذا بغُصنِ شجرةٍ يتدلّى فيه حجابٌ يتمايلُ مع قوّة الرياح في يوم الفزع الأكبر فأخذتُه وغطيت به رأسي.  واستيقظتُ موقنة أنّها رسائل الله الخفيّة التي قد لا يؤمن بها الكثيرون ولكنّي شديدةُ الإيمانِ بِها بل وشديدة اليقين.

مايو من عام 2011 كان تاريخ ارتدائي للحجاب.. ولم تكن ثورة تونس هي سبب ارتدائي له لأني لم أكن أخاف أصلا من قوانين المخلوع الذي خلع حجاب كل محجبة.. من قبلِ أن أرتدِيه كُنتُ أكره شيئا اسمه "حجاب"، كلّما ذُكِر أمامي كنتُ أشعرُ بالاختناق، نعم بالاختناق حرفيّا، وفي ذات الوقت لم أكن أكره المحجبات وكنتُ أُبارِكُ لكلّ من أراها ارتدته حبّا لله والتزاما بأوامره، وليس لإرضاء أيّ أحدٍ من العبادِ أو لإخفاء عيُوبٍ الشعرِ مثلا.. بالرغم من أنّي بدأتُ الصلاة مذ كان عمري عشر سنوات ولم أنقطع عنها أو أتركها أبدًا.

إلا أنني كنت أكره الحجاب، وكنتُ أحبّ الله.. ولا تسألني فضلا ذلك السؤال النمطيّ المعتاد "كيف تدّعين أنّكِ تُحبّين الله ثمّ تقولين أنّك تكرهين شيئا أمرك من تحبّين بارتدائه؟"، لأنّي سأجيبك بنفس السؤال "لماذا ارتكبت الذنوب والمعاصي وأنت تقول دائما أنّك تُحبّ الله؟

 فأنا مِثلُك يا صديقي أُذنِبُ وأتوبُ وأبتعِدُ ولعلّي أعودُ.. في السنة الثانية من دراستي الثانويّة كانت أمّي تلحّ عليّ دائما لأرتدي الحجاب، وكنتُ أرفضُ الأمر رفضا تامّا ولا أُفكّر فيه من الأصل، وأذكُرُ أنّها قالت لي مرّة "إن لم ترتدي الحجاب يا نسرين فأنا غيرُ راضيةٍ عنكِ" وأذكرُ أنّي أجبتها "إن كنتِ تُريدِين منّي أن أرتديه لأرضيكِ فسأفعلُ فقط أمامكِ ثم سأقوم بخلعِه بالمعهدِ وأعيدُ ارتداءهُ إذا حان موعدُ عودتي إلى البيت".. وتخلّت أمّي بعدها عن أسلوب نصحها الخاطئ ودعت لي بالهداية.

 ومرّت السنوات حتّى نجحتُ بالباكالوريا وهي إنهاء المرحلةِ الثانويّة عندنا في تونس.. وانتقلت إلى مرحلةِ الدّراسة بالجامعة، طبعا وإلى المبيت الجامعيّ.. وبفضل الله تعرّفتُ على فتياتِ على قدرٍ كبيرٍ من الأخلاقِ والالتزام بالدّين.. جميعُهُنّ محجّبات، وكانت بعضُهُنّ يحثثنني على ارتداء الحجاب، وبعضُهنّ يأتين لي بأقراص ليزريّة فيها فيديوهات تذكير وغيرها، لا أنكِر وقتها أنّي بدأت أفكّر بالأمر، ولكنّ نفسي كانت ترفضه وبشدّة.

كنتُ أقفُ أحيانا أمام مرآةِ غُرفتِي بالمبيت لأجرّبه، ولكن سُرعان ما أختنق وأشعر أنّه شيء زائدٌ يقطعُ عنّي التنفس كما لم يكُن يروقني شكله فأرميه وأسدلُ شعري وأذهب للجامعة، حتى يئس منّي كلّ من حاول حثّي، ولم أكن أحتاجُ حقا لأن يعلّمني أحد وجُوب الحجاب، فقد كنت أعرف ما لا بأس به من ديني، ولكنّي كنتُ أكرهُ أن أرتدي الثياب الطويلة أو غطاء الرأس.

كنتُ ولازلتُ ككلّ فتاةٍ أريدُ إظهار مفاتني وإسدال شعرِي لتعبث به الرياح، كنتُ ولازلتُ أحبّ تلك النّسمات التي تُبردُ رقبتي بالصيف، كنتُ ولازلتُ أكرهُ السباحة بالبحر بالحجاب، كنتُ ولازلتُ أحبّ الفساتين القصيرة وكلّ الثياب الرياضيّة وجميع تسريحات الشعر وزينتها، كنتُ أحبّ تلك الأقراط الأنيقة التي تتدلّى من الأذنين وكنتُ أحبّ تلك القلائد التي تزيدُ المرأة أنوثة وجاذبيّة.. وكنتُ أحِبُّ الله.. و وحدي كنتُ أعرفُ كُرة النّور الصغيرة المختبئة وراء جدران قلبي، حين كانت مرّات قليلة جدا ربّما تناديني أن "هيّا يا نسرين فلننتصر للحبّ".

وفي ليلة من ليالي مايو من سنة 2011 نمتُ وبقيت الكرة تضربُ جُدران قلبي، وسبّبت لي ألمًا كبيرًا لم أكن لأبرأ منه قبل أن أنتصر للحبّ.. ولأنّه لم يكن على أحد منهم الهُدى وكان عليهم التذكير، ولأنّ الله يمنّ على من يشاءُ بإذنه رأيتُ في تلك الليلة أنّه يومُ القيامة، وكان النّاس يركضون كالمجانين خوفًا وفزعًا وكُنت لا أقلّ عنهُم فزعًا ولكنّي بقيتُ أبحثُ عن حجابٍ للرأس قبل أن يأتي دوري لأقف أمام ربّ الأربابِ للحساب، فإذا بغُصنِ شجرةٍ يتدلّى فيه حجابٌ يتمايلُ مع قوّة الرياح في يوم الفزع الأكبر فأخذتُه وغطيت به رأسي.

 واستيقظتُ موقنة أنّها رسائل الله الخفيّة التي قد لا يؤمن بها الكثيرون ولكنّي شديدةُ الإيمانِ بِها بل وشديدة اليقين، رسالةٌ واحدةٌ من الله كانت كفيلةً أن أتخذ القرار دون تردّد ودون شكّ ودون خوفٍ، كانت أولُ كلماتٍ قُلتها للمرآة "يبدُو هذا خانقا مع كُلّ هذه الدبابيسِ ولكنّي أحبّ الله"، ارتديتُ حجابي للمرّة الأولى باختناق وحبّ وعاهدتُ نفسي ثمّ عاهدتُ الله أنّي لن أعود لنفس المرآة متراجعة عن القرارِ ولن أسمح لذات المرآة أن تبصُق على وجهي، لازال يبدُو هذا خانقا ولكنّي أحبّ الله.