بنفسج

يا صاحبي السجن

الأربعاء 17 مايو

كنا بكل ما آوتينا من قوة وجهد وأفكار، نصنع لوحات جميلة رغم قساوة الظروف، نتبادل العزائم، نصنع ألذ المأكولات، بأقل الإمكانيات، حتى أننا تمكنا من صناعة القطايف والكنافة، ونتصدق مما بين أيدينا من إمكانيات، نتسارع في الطاعات والعبادات، ونتسابق في جعل هذا رمضان أكثر أجرًا وصبرًا وثباتًا، ونرسم بسمتنا على وجوهنا في كل مرة ننتصر بها على أنفسنا أولًا بأن لم نسمح لها بالتكاسل والتباطؤ والانشغال بالحزن، وعلى سجاننا ثانيًا الذي كان يتوقع منا اليأس والفتور، ولكن رأى ما لم يتوقع من همم عالية ونفسيات عظيمة.

لم يكن رمضانًا عاديًا؛ جلسنا جميعًا أجسادًا على طاولة الإفطار، والشوق يُداري عيوننا، وأذهاننا وأرواحنا تحوم بالخارج حيث دفء المنزل وحب العائلة التي لا يعوضها شيء. حين اُعتقلت في سجون الاحتلال الإسرائيلي، عانيت هذه المرارة برفقة رفيقات الأسر. كنا كلنا، على رغم اختلافنا واختلاف ظروفنا وأوضاعنا، نمتلك ذات الشوق والتوق إلى الأهل والحرية وأجواء رمضان المميزة في الخارج. ولكن، رغم كل ذلك الألم الذي كان يحيط قلوبنا، والشوق الذي تحكيه عيوننا، دون الحاجة إلى النطق، صنعنا من هذا الألم، بكل حُب وأمل، مساحة خضراء شاسعة لنعيش طقوس رمضان الجميلة رغم مرارة السجن وظلم السجان.

ذكريات علقت بقلبي قبل ذاكراتي خلف تلك الأسوار، ما زلت أذكر كيف استطاعت الأسيرة الجريحة إسراء جعابيص، بأطرافها المبتورة، صنع فوانيس مُتقنة لكل غرفة من غرف القسم، دُهشنا بالفوانيس، فلقد كانت جميلة جدًا، وأضافت إسراء عليها من روحها بعض الجمال.

وتسارعنا جميعًا لنعلّق الفوانيس في وسط الغرف، وأضفنا لها زينة من إمكانيات السجن البسيطة، وكل غرفة، ما إن تنتهي من تزيين غرفتها، تنادي على الأسيرات في الغرف الثانية لرؤية الزينة، يبدأ التنافس بين الغرف: "مين زينتها أحلى"، بالفعل، كل غرف القسم رغم بشاعتها كانت جميلة، بجمال أرواح الأسيرات اللواتي أبين على أنفسهن أن ينال السجان من عزيمتهن، ويسمحن له بالتلذذ في رؤيتهن مكسورات أو ضعيفات، وفي كل مرة، وفي كل مناسبة، كان يتعجب من أي لهن هذه الروح المعنوية العالية، والنفسيات التي تناطح أعالي السحاب رغم كل التضييقات ورغم كل المرار من حولهن.

ما زلت أذكر ساعة الإفطار، وأيدينا المرفوعة إلى السماء، ومن قبلها قلوبنا، بأن لا ينقضي رمضان إلا ونحن بين أهالينا في الحرية، وما زال دعاء "اللهمّ صفقة عز مشرفة قريبة تبيض السجون"، يتردد في أذني وينطق به لساني كل يوم في ساعة الإفطار لا إراديًا.

كانت ساعة الإفطار ثقيلة ونحن نستذكر أهالينا؛ ماذا يفعلون؟ ماذا سيفطرون اليوم؟ كيف يدارون أعينهم عن مقاعدنا الفارغة على طاولة الإفطار؟ ويخيم الحزن علينا. ولكن سرعان ما نستذكر الفكرة التي زرعناها في نفوسنا وعقولنا منذ بداية رمضان؛ "صحيح أن رمضان ثقيل ببعدنا عن أهالينا وبحرماننا من حريتنا.. ولكنه أيضًا ثقيل في موازيننا عند رب رحيم لا يضيع لنا أجرًا".
كانت هذه الفكرة، عزاءنا، نستمد منها طاقتنا ونجدد إيماننا في كل مرة نستذكرها.

مشاهد كثيرة ما زالت عالقة في ذهني من رمضان الماضي في الأسر ولا أنساها، وكيف أنسى أيام مريرة صنعنا منها أجمل الذكريات والأوقات. من المشاهد التي لا أنساها وأستذكرها يوميًا، مشهد الأسيرة شروق دويات، المحكومة 16 عامًا، بزي الصلاة، وببسمتها التي كانت تزيل عنا أعباء السجن كلها، وهي تمشي في ساحة الفورة مُطمئنة الأسيرات وهي تقول لهن: "هانت هانت ضايل 5 دقائق للآذان"، وبعدها، يعلو صوتها الجهوري بقولها: "يا بنات أذن المغرب، يا بنات أذن المغرب.. صيامًا مقبولًا وإفطارًا شهيًا".

لا أنسى كيف كانت الأسيرة أنسام شواهنة (محررة حاليًا)، تقاوم "النعس"، وتحاول أن تشغل نفسها كل ليلة بما هو مفيد حتى ميعاد السحور لكي تحضّر لنا السحور في الغرفة، وتحاول في كل ليلة أن تضيف لنا طبقًا مميزًا. ومن ثم يأتي لذاكرتي صوت ممثلة الأسيرات الأسيرة بيان فرعون "محررة حاليًا"، وهي تنادي من وراء باب زنزانتها على كل غرف القسم للتأكد وتطمئن من أنهن استيقظن للسحور. هذه السمة الرائعة التجرد من الذات والتفكير في الآخرين هي أجمل ما لامسته ووجدته بين الأسيرات.

كنا بكل ما آوتينا من قوة وجهد وأفكار، نصنع لوحات جميلة رغم قساوة الظروف، نتبادل العزائم، نصنع ألذ المأكولات، بأقل الإمكانيات، حتى أننا تمكنا من صناعة القطايف والكنافة، ونتصدق مما بين أيدينا من إمكانيات، نتسارع في الطاعات والعبادات، ونتسابق في جعل هذا رمضان أكثر أجرًا وصبرًا وثباتًا، ونرسم بسمتنا على وجوهنا في كل مرة ننتصر بها على أنفسنا أولًا بأن لم نسمح لها بالتكاسل والتباطؤ والانشغال بالحزن، وعلى سجاننا ثانيًا الذي كان يتوقع منا اليأس والفتور، ولكن رأى ما لم يتوقع من همم عالية ونفسيات عظيمة. وسيبقى دعاؤنا الدائم وفي كل لحظة: "لعن الله السجن والسجان، وعجل في صفقة عز مشرفة تبيض بها السجون".