بنفسج

أهازيج تراثية.. أصل الأهزوجة وحكايتها

الثلاثاء 22 اغسطس

لطالما دكت كلمات الأغاني التراثية الفلسطينية كل مناسباتنا الوطنية، لم تكن مجرد أهازيج نرددها بقدر ما هي شهادة قوية على نضالنا ضد الاحتلال، علامة تراثية تأخذنا نحو الماضي، فنحن نعلم أنها من عبق التراث القديم، تذكرنا بلمة الجدات وهن يصدحن بالغناء، وينقلن التاريخ عبر أهزوجة. تساءلنا كثيرًا عن مناسبة الكلمات التي حفظناها عن ظهر قلب دون إرادة منا، فسهولة الكلمات وجماليتها وتعلقها بتراثنا تجعلنا حاضرين الذاكرة لنرددها على الدوام.

 فـ "سبل عيونه ومد إيده يحنوله" تهتف بها أمهات الشهداء وهن يزغردن في جنازات أبنائهن، فتدفعك كلماتها للبكاء، ولكنك تظل ثباتًا وتكمل معها "غزال زغير بالمنديل يلفوله يا إمي، يا إمي عبيلي المخاداتي". كل أغنية لها حكاية مختلفة منهن من صدحنا به في الفرح وجزء في الثورة، وآخر في الرثاء. نحن الفلسطينيين تراثنا مليء بالأهازيج الشعبية ولكل مناسبة لها أهزوجة مختلفة، هنا نتعرف على أصل 4 أهازيج قديمة فلنتعرف على الرواية الأقوى لمناسبة كل أغنية تراثية.

يا ظريف الطول

يُقال إن أغنية يا ظريف الطول تعود إلى عهد الانتداب البريطاني، وتغنى بها أجدادنا آنذاك وتناقلتها الأجيال من بعدهم، "ظريف الطول" هو شاب فلسطيني لم يُعرف اسمه، ولكن بسبب هيبته وطوله الممشوق أطلق عليه "زريف الطول".
 
في إحدى قرى فلسطين عاش "ظريف الطول" غريبًا عن أهل القرية لكنه اندمج معهم وعاش في استقرار موفرًا لنفسه عمل بالنجارة عند العم أبو حسن الذي يدفع له راتبه بشكل أسبوعي.  ظل مقيمًا في القرية حتى عرفه كل من فيها، كان مشهورًا وسط أهاليها بحسن المعاملة، ودماثة الخُلق.
 

"يا ظريف الطول وقت تقلك رايح على الغربة وبلادك أحسلنك.. خايف يا ظريف تروح وتتملك وتعاشر الغير وتنساني أنا".

يُقال إن أغنية يا ظريف الطول تعود إلى عهد الانتداب البريطاني، وتغنى بها أجدادنا آنذاك وتناقلتها الأجيال من بعدهم، "ظريف الطول" هو شاب فلسطيني لم يُعرف اسمه، ولكن بسبب هيبته وطوله الممشوق أطلق عليه "زريف الطول". في إحدى قرى فلسطين عاش "ظريف الطول" غريبًا عن أهل القرية لكنه اندمج معهم وعاش في استقرار موفرًا لنفسه عمل بالنجارة عند العم أبو حسن الذي يدفع له راتبه بشكل أسبوعي.

كان "ظريف الطول" وحيدًا في القرية لا يعلم على ماذا يصرف أمواله. ظل مقيمًا في القرية حتى عرفه كل من فيها، كان مشهورًا وسط أهاليها بحسن المعاملة، ودماثة الخُلق، ومن شدة حُسنه تهافتت عليه نساء القرية لتزويجه لبناتهن، فعكفت زوجة إمام مسجد القرية بلفت انتباهه لابنتها وحدثته عنها، خلال تصنيعه لصندوق خشبي للملابس لها في المكان الذي يعمل به. ولم يتوقف الأمر عند ذلك فها هي زوجة مختار القرية تفعل الشيء ذاته بغية الظفر به لابنتها.

في يوم من أيام الانتداب البريطاني لا نعلم تاريخه تحديدًا هجمت العصابات الصهيونية على القرية وقتلت ثلاثة من الشبان الفلسطينيين، فعم الحزن قلوب الأهالي. بعد الحادثة الحزينة اختفى "ظريف الطول" ولم يعلم أحد من القرية أين ذهب، ثم عاد من جديد بعد أربعة أيام، وبعد شهر من استشهاد الشبان، أعادت العصابات الصهيونية اقتحام القرية فأخرج "ظريف الطول" 5 بنادق اشتراها هو، ووزعها على شباب القرية الشجعان، وقُتل حينها 6 أشخاص من أفراد العصابات.

بعد عملية القتل التي قتل فيها صهاينة عاثوا فسادًا في قرية "ظريف الطول" وجاءوا بالأصل مهاجمين لأهل القرية، أعادت مجموعات من الصهاينة الهجوم عليها من جديد بغية الثأر، ولكن كل من في القرية من الشباب والنساء والأطفال قاتلوا ببسالة كل في مكانه، فقد شاركت نسوة القرية في مجابهة العصابات فقمن ببيع ذهبهن وأعطاء المال للشباب لشراء "بواريد" وصرن يغنين: "يا عربي يا ابن المقرودة بيع أمك واشتري بارودة".

لم تتوقف المعركة؛ فظل الشباب يقاتلون العصابات الصهيونية واستُشهد الكثير الكثير منهم، وفي المقابل قُتل عدد كبير من الصهاينة، وحينما انتهى القتال عكف أهالي القرية على جمع جثث الشهداء ولكن لم يجدوا "ظريف الطول" لا مع الأحياء ولا مع الشهداء، قد اختفى تمامًا، لكن الشهادات الحية من المقاتلين الذي بقوا أحياء أفادت أن "ظريف الطول" قاتل بشجاعة في المعركة، إذ قُتل 20 صهيونيًا، وكان يحارب ببندقتين والرصاص فوق رأسه من كل حدب وصوب.

غادر ظريف الطول القرية، نعم، لكنه ظل حاضرًا في قلوب كل من عايشه، ورأى بسالته وإيمانه بالنضال، ومن هنا انطلقت الأغنية: "يا زريف الطول وين رايح تروح بقلب بلادنا تعبقت الجروف يا زريف الطول وقف تاقولك رايح عالغربة وفلسطين أحسنلك".


اقرأ أيضًا: في التاريخ والهوية والقضية... 5 روايات تحكي فلسطين


بعد حوالي 5 سنوات من غياب "ظريف الطول" قال أحدهم إنه شاهده مع عز الدين القسام في يعبد، وآخر أكد على أنه كان مع الثوار بيافا، وآخرون شاهدوه في بورسعيد مع جمال عبد الناصر، ومنهم من قال إنه في نهر الأردن وقد فجر دبابة هناك، وجزء أكد أنه في غزة يقاتل مع مناضليها، وبهذا ظل ظريف الطول أيقونة نضالية للشعب الفلسطيني يتغنى به، ولم يكن ظريف الطول وحده، بل تبعه العديد من أمثاله المقاتلين الشرسين عن الحق.

بقيت الأغنية تتردد في المحافل كلها بكلماتها الجميلة ونددنها حينما نودع أحد لبلاد الغربة: "يا ظريف الطول غايب عن الأوطان.. وغيابك عنا ملّى القلب أحزان وارجع لأهلك وأرجع للحنان.. ما تلقى الحنية غير في بلادنا".

سبل عيونه ومد إيده يحنوله

 

تجبرك كلمات الأغنية التراثية سبل عيونه على الابتسام والبكاء في آن واحد، فهي من الأهازيج التراثية التي كن يغننها النسوة في الأعراس الفلسطينية قديمًا، فيرددن بالمهاهاة بداية ثم ينطلقن بكلمات الأغنية، تتوسط العروس الموكب العائلي الصغير وتدندن معهن.

 والحناء في الصناديق تنتظر أن ينتهين من الغناء لتتخضب أيديهن بها، كانت "سبل عيونه" مختصة بالفرح فقط، لكن سرعان ما تحولت وأصبحت تُغني في جنازات الشهداء، أي ألم هذا! أي قهر هذا!

سبل عيونو ومد إيده يحنوله.. غزال زغير بالمنديل يلفوله..يا إمي يا إمي عبيلي المخاداتي.. وطلعت من الدار وما ودعت خياتي..سبل عيونه ومد إيده يحنوله.. غزال زغير بالمنديل يلفوله..

تجبرك كلمات الأغنية التراثية سبل عيونه على الابتسام والبكاء في آن واحد، فهي من الأهازيج التراثية التي كن يغننها النسوة في الأعراس الفلسطينية قديمًا، فيرددن بالمهاهاة بداية ثم ينطلقن بكلمات الأغنية، تتوسط العروس الموكب العائلي الصغير وتدندن معهن، والحناء في الصناديق تنتظر أن ينتهين من الغناء لتتخضب أيديهن بها، كانت "سبل عيونه" مختصة بالفرح فقط، لكن سرعان ما تحولت وأصبحت تُغني في جنازات الشهداء، أي ألم هذا! أي قهر هذا!

من ذاكرة تستدعي الأغنية في لحظات الفرح إلى صورة لا تخرج من ذهنك وأم الشهيد تردد بجانب رأس حبيبها والقلب يبكي "غزال زغير بالمنديل يلفوله"، وتسأل نفسها "هل سيغادرنا الغزال حقًا! هل لن يكون حاضرًا ويغني لشقيقته في حفل حنائها "سبل عيونه". منذ متى أصبحت أغاني الفرح رمزًا للرثاء في زفة الشهيد! يا للمفارقة العجيبة يا للحزن الكبير.

من سجن عكا وطلعت جنازة

غك.webp
الشهداء الثلاثة محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير

من سجن عكا وطلعت جنازة.. محمد جمجوم وفؤاد حجازي.. جازي عليهم يا شعبي جازي.. المندوب السامي وربعة وعموما.. محمد جمجوم ومع عطا الزير.. فؤاد حجازي وعز الدخير.. انظر المقدر والتقادير.. بأحكام الظالم تايعدمونا..

بعض كلمات الأغاني الثورية لم تكن مجرد أهازيج تردد فقط بل إنها أكبر من ذلك بكثير، تدك القلب وتذكره بحزنه على الثوار الذين أعدموا بدم بارد، كل لفظ في أغنية من سجن عكا تعود بنا نحو المشهد الذي تخيلناه كلنا، وما زلنا نتخيله كلما سمعنا الكلمات تتردد، غنتها فرقة العاشقين، فأبكتنا ونحن نتخيل جمجوم وهو يسابق رفيق دربه حجازي للإعدام قبله وقبل الزير حتى لا يرى رفاق النضال يغادرون الحياة قبله، علاقة إنسانية تُضرب في الصداقة الحقة جسدها الرفاق الثلاثة، كلما زاحم المشهد ذاكرتنا نواسي أنفسنا بأنهم أبطال، والبطل لا يموت في ذاكرة محبيه، وها نحن بعد 95 عامًا نروي للصغار حكايتهم البطولية، لتكون نموذجًا يُحتذى به.

في يونيو 1930 دبت الاحتجاجات شوارع فلسطين ضد الانتداب البريطاني، وكان في طليعتها جمجوم والزير وحجازي، فقاتلوا ببسالة إلا أن أُلقي القبض عليهم وتم الحكم بإعدامهم. لم يأبه الرفاق للقرار بل ظلوا صامدين في وجه الاستعمار وقال: إن الأمة، التي تقف في وجه بؤسها وتقاتل، هي أمة لن تموت أبدًا".


اقرأ أيضًا: نسيج في الذاكرة: الثوب الفلسطيني يروي الحكاية


سُمي اليوم الذي أُعدم به الرجال الثلاثاء الحمراء، ووثق حكايتهم الشاعر إبراهيم طوقان في أشعاره، لكن كانت قصيدة الشاعر نوح إبراهيم هي الأشهر على الإطلاق في تلك الحادثة، وأخذتها فرقة للعاشقين في الثمانينيات لتكون بذلك أغنية تراثية شعبية يرددها العامة.

في يوم إعدام أبطالنا ردد الرفاق: "يا ظلام السجن خيم إننا نهوى الظلاما". وإن أول من استُشهد منهم هو فؤاد حجازي، أما عطا الزير فكان طلبه الأخير قبل إعدامه أن يحني يديه بالحناء كما يفعل أهل الخليل وفلسطين عامة في أفراحهم، وعندما جاء دوره ليقتاد إلى الإعدام طلب أن تُفك السلاسل التي قُيد بها، إشارة منه أنه لا يهاب الموت، بل يتقدم له رافعًا رأسه مبتسمًا أنه أدى أمانة الوطن، وحين قوبل طلبه بالرفض فكها بنفسه وتقدم نحو الحلقة الدائرية التي ألتفت حول عنقه لتعلن عن النهاية.

يا طالعين الجبل

يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح.. ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لابدي ملبوس بين للل يامان يامان عين للل الهنا يا روح..

لربما تعتقد أن هناك خطأ في كتابة وغناء أغنية يا طالعين الجبل، لكن اعتقادك ليس بصحيح، هذه تُسمى طريقة الملولة أو الترويدة أي التشفير؛ وهي نوع من أنواع التمويه حتى لا يفهم المحتل ماذا تعني تلك الكلمات.

ولنوضح أكثر معنى الترويدة: هي تعتبر فلكلور وتراث غنائي فلسطيني ابتُكر في فلسطين تقوم فكرته على الغناء بصيغة تشفير الكلمات، وذلك بقلب الحرف الأخير من كل كلمة وإضافة حرف اللام في النهاية. كان يُستخدم لتمرير الرسائل دون أن يعرف ماهيتها المستعمرين.


اقرأ أيضًا: حواري القدس: أن تعيش الذاكرة وتكتب الحكاية


لم يتوقف التعامل بطريقة للترويدة لإيصال المراد أبدًا، ظل الفلسطينيين يستعملون تلك الحيلة حتى بعد النكبة، ويوجد العديد من جداتنا يتحدثن بتلك اللغة المبهمة ويتقننها حتى الآن.

لنأتي بالتفصيل لأغنية يا طالعين الجبل ولنعرفها بأنها أغنية تراثية قديمة تعود لثلاثينيات القرن الماضي إبان الانتداب البريطاني، كانت النسوة يغنينها للأسرى في سجون الاستعمار، ويقصدن بها إيصال رسالة مفادها أن الفدائيين سيحررونهم ليلًا فور اشتعال النيران؛ فيفهم الأسرى الرسالة المبهمة ويستعدون لنيل الحرية.