بنفسج

تنتهي الحرب ولا تنتهي آثارها: غزة بانتظار اكتمالها

السبت 25 أكتوبر

آثار الحرب في غزة
آثار الحرب في غزة

حين تغيب أصوات القذائف، ويهدأ ردف الأنقاض، يقف أهل غزة بين سطورٍ من السلام المفترض ونبضٍ عالقٍ في صدورهم: فرحة ناقصة. ليست ابتسامةً عابرة، ولا هتافًا مفاجئًا، بل مزيجًا من الألم والأمل، من الانكسار والرجاء، يعيشونه على أرضٍ تعافت جزئيًا، لكن قلوبهم لم تُشفَ بعد.

انتهت الحرب، ولكنّ الحرب لم تنتهِ في داخلهم. عادوا إلى بيوتهم المهجّرة، لكن بعض الجدران لم تعد تُسمع ضحكاتها، بل تئنّ بصمت. عاد الأطفال إلى مدارسٍ نصف مكتملة، تلاحقهم كتبٌ مفقودة وأقلامٌ جُرحت في الطريق. جاءت الكهرباء والماء متقطّعين، وكأن غزة تقول إن النور لم يُعِد بعدُ الحقَّ الكامل في الحياة.

الفرحة الناقصة تلوح في عيون الأب الذي يرى جثمان ابنه في المنام، رغم أن خبر وفاته أَمِنَ رسولًا لمجلة الباقين. تلوح في قلب الأم التي رتّبت حفّة طعامٍ للاحتفال بانتهاء الحرب، لكنها لا تملك دفءَ المائدة الكامل بعد. تلوح في روح الشاب الذي نظّف شارع الحي بيديه، ووقف أمام بيته المهدّم وقال: "عدتُ"، لكنه يرى نصفه محطمًا، والآخر ينتظر أن يُبنى.

في هذه الفرحة الناقصة، يُعيد الناس ترتيب أنفاسهم، وأمامهم طريقٌ طويل نحو البقاء. لا يُحتفل بانتصارٍ ما دامت حرارة الأيام تتقاطع بين ضياعٍ وذكرى. لا تُعلَن النشوة حين لا يعود كل شيء كما كان. ومع ذلك، لا تُطفأ هذه الفرحة. هي تضيء بداخلك كشعلةٍ في العتمة، تهمس: نحن هنا. هي إشراقة تختصر كل الجروح الصغيرة التي لا تُرى إلا في صمت الليل؛ في ذكرى طفلٍ لم يعد، في زاوية بيتٍ لم يُعمَّر، في طَبلِ قلبٍ يتمنّى أن ترتدي الحياة ثوبًا بديلًا.


اقرأ أيضًا: الصمت: احتجاج صاخب في عالم أصم


هذه الفرحة ناقصة، لكنها ليست مهزومة. فحين لا تثق الأرض تمامًا في الخطى، تثق بالرجال الذين يمشون عليها بجرأة. اعتادوا أن ينهضوا من تحت الركام، فيعيدوا الحياة إلى زاويةٍ مهجورة، يزرعوا وردةً على بقايا جدارٍ محطم، يعيدوا الصلاة إلى مسجدٍ بلا سقف، ويقولوا معًا: نُعلن أننا بدأنا من جديد.

إن انتهاء الحرب لا يعني عودة كل شيء دفعةً واحدة، بل هو مرحلة أولى في رحلة إعادة البناء الداخلي والخارجي. أيام الضحك الأولى بعد الحرب تكون مثقلةً بثقل العودة، بذكرياتٍ تُطارد الفرح، وآمالٍ تتأرجح بين ما كان وما سيكون. فلتعلن غزة فرحتها الناقصة، ليس لأنها لا تستحق فرحةً كاملة، بل لأنها تعرف أن الجرح يحتاج وقتًا ليُشفى، وأن الإنسان الذي يُعيد بناء حياته لا يبدأ من الصفر، بل من منتصفه، من عزيمته التي لم تُقهر.

فليكن إعلان الانتهاء ليس فقط في توقف القنابل، بل في استعادة الضحكة التي لم تُنسَ بعد الحرب. ولتبقَ الفرحة، وإن كانت ناقصة، بدايةً لفرحةٍ كاملة ستُكتب بألوان الأجيال القادمة.