نحن هنا في غزة لا نموت فقط تحت القصف، بل نموت كل يوم بطريقة مختلفة، بحروب لا تُغطّيها الكاميرات، ولا تُكتب في نشرات الأخبار، ولا تُناقَش في المؤتمرات. في كل تواصل لي مع صديقاتي خارج الوطن، لا أحدثهن عن القنابل التي تنهال فوقنا، بل عن حروب أخرى؛ حروب صامتة تنهشنا كل يوم وتسرق منّا أعمارنا قطعة قطعة.
هنا، الطوابير لا تنتهي: طوابير الحمام، طوابير الاستحمام، طوابير الطعام، وطوابير تعبئة الماء. قد تقضي يومك متنقلًا من طابور إلى آخر، منتظرًا دورك لدقيقة من الماء أو قطعة خبز أو لحظة استحمام. تخيل أن تستيقظ ويبدأ يومك ليس بالعمل أو الدراسة، بل بالسؤال: “أين يوجد ماء اليوم؟ أين دور حمام فارغ؟”. تخيل أن الطوابير أصبحت طقوسنا اليومية، وأن أكبر أمانينا أن يصل دورنا قبل غروب الشمس. تخيل حال كبار السن والأطفال في كل خطوة!
الحرارة عدو كبير تصبح الخيمة علبة موت مغلقة، لا نسيم فيها ولا راحة ولا نوم. الليل لا يجلب هدوءًا، بل زواره الآخرين: الذباب وحشرات لم نعرف بعضها إلا في الخيام، وصارت جزءًا من تفاصيل يومنا. وإذا كان صيفها يقتل الأنفاس، فالشتاء لا يقل قسوة.
رحلة شقاء يومية لتأمين المياه. في بعض المناطق، يقطع الأطفال كيلومترات مشيًا على أقدامهم بحثًا عنها، يحملونها على أكتافهم الصغيرة في جالونات بلاستيكية أكبر من حجمهم وأحلامهم. أما الأمهات، فقد أتقنّ “فن التقطير”، ليس لتنقيته بل لترشيده، فكل لتر ماء يعني ساعات تعب لطفل لم يتجاوز العاشرة. كل غسلة يد تُحسب، كل استحمام يُؤجَّل، وكل دلو ماء يُقاس بوجع تعبئته قبل أن يُستخدم.
أما الحرارة عدو كبير تصبح الخيمة علبة موت مغلقة، لا نسيم فيها ولا راحة ولا نوم. الليل لا يجلب هدوءًا، بل زواره الآخرين: الذباب وحشرات لم نعرف بعضها إلا في الخيام، وصارت جزءًا من تفاصيل يومنا. وإذا كان صيفها يقتل الأنفاس، فالشتاء لا يقل قسوة، بل هو فاجعة أخرى: تجمد دم في العروق، غرق جماعي، تسرب مياه الأمطار إلى داخل الخيام، إغراق للفُرش والمقتنيات وأحلام الأطفال.
كثيرون ناموا فوق الماء وتحته، حتى تعفنت الأغطية وانبعثت منها روائح الرطوبة، وارتجفت أجساد الأطفال بالحمى والسعال والبرد. الشتاء في الخيام لا يحمل دفئًا ولا جمالًا، بل موجة أمراض، وبكاء صامت، ومعاناة لا تنتهي.
اقرأ أيضًا: على أطراف المدينة المتعبة... على طريق النزوح
وتوجد كارثة أخرى أصعب حيث الضيوف غير المرغوب فيهم الذباب والفئران، ما لم نكن نتخيله يومًا صار واقعًا: الذباب بالمئات، والفئران تمشي بجانب الأطفال دون خوف، وحشرات غريبة تشاركنا يومنا! لم تعد مصدر قلق، بل جزءًا من تفاصيل حياتنا، حتى فقد الأطفال شعور الاشمئزاز منها وكأننا فقدنا كافة أشكال الإحساس، فيما نحاول نحن أن نتظاهر بالقوة كي لا يشعروا بالهزيمة.
فيما الهم الآخر بورصة السوق إذ تخرج صباحًا لتشتري شيئًا، تسأل البائع: “بكم هذا؟”، يجيب: “10 دولارات”. تتردد قليلًا وتعود بعد نصف ساعة، فيقول: “20 دولارًا”! المنتج لم يتغيّر، وأنت لم تتغيّر، لكن السوق تغيّر. الفوضى تحكم حياتنا، ولم نعد نخطط للغد، بل نحاول فقط أن نؤمن وجبة واحدة بلا خسارة مضاعفة.
وأسوأ الحقائق: لا توجد في غزة مياه صالحة للشرب. حتى محطات التحلية، التي بذلت جهودًا جبارة رغم الدمار، أعلنت أن المياه المنتجة “غير صالحة للشرب” حتى بأفضل مستويات التحسين الممكنة حاليًا. القصف دمّر البنية التحتية، ونقص الوقود شلّ عمل المحطات، والماء الذي تشربه العائلة اليوم قد يكون هو ذاته الذي يمرض طفلها غدًا.
وهناك النقود التي تتبخر في يدك؛ تملك في حسابك البنكي 1000 دولار وتظن أنك بأمان؟ جرّب سحبها نقدًا اليوم! لن تحصل إلا على 500 أو 550 دولارًا. اللعبة قاسية: الكاش نادر، الحوالات تُهدر، والبحث عن تاجر يقبلها رحلة بحد ذاتها. الأموال التي تصل من الخارج تُستنزف قبل أن تُصرف، ولا تصل كما يجب لمن يحتاجها.
هنا انطفاء للأمل لا عمل ولا دخل، من بقي له عمل هنا؟ الغالبية فقدوا وظائفهم، أرزاقهم، مشاريعهم منذ بداية الحرب. من بقي له شيء، اضطر لبيعه ليؤمّن لقمة يوم. أسر بأكملها كانت تعيش على دخل يومي بسيط، واليوم لا دخل، ولا طعام، ولا مال. آباء لا يملكون سوى محاولاتهم، وأمهات يخبزن بالدموع لا بالدقيق.
اقرأ أيضًا: نساء من رماد الذاكرة: حين تنجو الأجساد ولا ينجو القلب
ونأتي للهم الاعظم الأدوية وشحها هما في كل خيمة وصيدلية ووجه أعرفه سألته: “هل تعرف أين أجد هذا الدواء؟”، وذلك القريب الذي كان يسلّم على المارة بورقة كتب عليها اسم دواء طفلته، لعلّ أحدهم يعثر عليه بالصدفة، كي يمر يومها دون أن تدخل في غيبوبتها المعتادة بسبب نقص العلاج.
رسالة إليك أيها القارئ: اقرأ هذه الكلمات بصوت وجدانك؛ إذ لم تُغطِّ هذه المقالة كل أوجه المعاناة اليومية، فهناك وجوه أخرى للحرب لا تُصوَّر ولا تُحكى بما يكفي. إذا قرأت هذا النص وأنت في بيتك، وماؤك نظيف، وسريرك بارد، ودواؤك متاح في الصيدلية، فأرجوك: لا تكتفِ بالتعاطف!
تذكر أن هناك من ينام الآن وهو مبلل بالعرق، محاصر بالذباب، لا يملك طعامًا ولا دواءً ولا أملًا. ساعدهم إن استطعت، وانقل صوتهم إن استطعت، ولا تكن شاهدًا صامتًا على حرب لا تُبث.

