بنفسج

فاطمة البديري.. صوت "هنا القدس" الذي غادرنا

الجمعة 04 اغسطس

لم تكن الإذاعة حلمًا لها يومًا ما؛ فقد كان صوتها الرخيم وهي تنطق "هنا القدس" من خلف الميكرفون صدفة بحتة، لم تشغل بالها بها سابقًا؛ فمن معلمة للغة العربية إلى مذيعة. أمر اثار استهجان بيئتها المحيطة، ولكن والدها كان مشجعًا لها في أية حال، عرفها الكل آنذاك بلغتها العربية وبصوتها الجهور. هي ابنة القاضي والمفتي، وزوجة المذيع الذي أحبته حبًا جمًا، وحين قيل لها: "أخدتيه عن حب؟" ردت: "نعم كانت قصة حب وأذكر حين كتب لي قصيدة  عيناك يا سمراء هذه".

نتعرف على فاطمة البديري التي تُعد من أوائل المذيعات في الوطن العربي، وأول من بثت صوتها عبر إذاعة "هنا القدس" في العام 1946، سُجل اسمها مع المذيعتين المصريتين صفية المهندس وتماضر توفيق، اللواتي خضن تجربة العمل الإذاعي مع البديري في نفس الفترة، فاشتهرن آنذاك، وبقي التاريخ يذكرهن على الدوام.

فاطمة البديري: سيرة ذاتية

 
فاطمة ابنة القاضي الشرعي خريج الأزهر والمفتي موسى البديري، لم يكن قاضيًا فحسب، بل كان له دور في السلك التعليمي؛ فقد كان مدرسًا للرياضيات، وأبدى حضورًا لافتًا في القضايا الوطنية، إضافة إلى دوره في الحلقات الدينية.
 
 فقد كان واعظًا يعطي الدروس في علوم الدين والفقه واللغة العربية. فاطمة المولودة في العام 1923 حصلت على شهادة المترك "الثانوية العامة"، من كلية شميدت للبنات، ثم نالت دبلوم التربية من كلية دار المعلمات في القدس، ثم درست اللغة العربية، وبعدها انتقلت للعمل في السلك الإذاعي.
 
 

فاطمة ابنة القاضي الشرعي خريج الأزهر والمفتي موسى البديري، لم يكن قاضيًا فحسب، بل كان له دور في السلك التعليمي؛ فقد كان مدرسًا للرياضيات، وأبدى حضورًا لافتًا في القضايا الوطنية، إضافة إلى دوره في الحلقات الدينية، فقد كان واعظًا يعطي الدروس في علوم الدين والفقه واللغة العربية. فاطمة المولودة في العام 1923 حصلت على شهادة المترك "الثانوية العامة"، من كلية شميدت للبنات، ثم نالت دبلوم التربية من كلية دار المعلمات في القدس، ثم درست اللغة العربية، وبعدها انتقلت للعمل في السلك الإذاعي.

وضمن مساهمة لها في مشروع "التأريخ الشفوي للمساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية" منذ الثلاثينيات، تقول البديري في أحد حواراتها عن استهجان المجتمع لعملها كمذيعة في ذلك الوقت: "ردة الفعل كانت فظيعة حطّموا لي أعصابي. الناس تركوا القنبلة الذرية، وصاروا يحكوا عليّ، وبعدين لأنه أبوي قاضي، كان قاضيًا شرعيًا وشيخًا، ويدرس في الجامع، فاستكبروها كثير، إنه كيف أروح وكيف أقعد مع الرجال وأشتغل في الأخبار وأطلع مذيعة مع المذيعين؟! كلهم مذيعين كانوا، من جملتهم جوزي. ما هو كان مذيع وأنا كنت مساعدة إله".


اقرأ أيضًا: من سير الفلسطينيات: لواحظ عبد الهادي


لم تأبه البديري لما قيل واستمرت في إذاعة "هنا القدس" حتى اندلعت النكبة في العام 1948 فبدأت رحلة من نوع آخر كلاجئة في البلدان برفقة زوجها عصام حماد، إذ أسسا بعد اللجوء إذاعة الشام في الفترة ما بين عامي 1950 و1952.

بعد ذلك اتفق الرفيقان للعودة لرام الله عصام عاد للعمل الإذاعي، وفاطمة عادت للعمل في التربية والتعليم، ثم طلبتها الإذاعة لقراءة نشرة الأخبار مرة واحدة يوميًا فبقيت على هذا النظام، وبعد إقالة حكومة سليمان النابلسي عام 1956، تعرض زوجها عصام للمطاردة وصدر عليه حكم إثر توجهاته ومواقفه السياسية، فاضطرا إلى الذهاب إلى الشام وبقيا لمدة عام فلم تستقر أمورهما، ثم انتقلا للعمل في "الإذاعة الألمانية" عام 1958، وبقيا فيها حتى منتصف الستينيات، أي ما مجموعه سبع سنوات، ثم عاودا الرجوع إلى أرض الوطن بعد قرار العفو عن المحكومين، سكنت في رام الله لتعود معلمة في السلك التعليمي الذي تركته عند عملها مذيعة، ثم عملت أمينة مكتبة في دار المعلمات.

حكايات اللجوء

فاطمة البديري.webp
فاطمة البديري

بعد عامين غادرت رام الله إلى الأردن، وعملت في مكتبة الجامعة الأردنية "قسم التصنيف"، وأيضًا عملت في الدار الأردنية للثقافة والإعلام في عمان. لم تتوقف البديري على العمل مذيعة نشرات أخبار فقط، كما بدأت في إذاعة "هنا القدس"، بل خاضت تجربة الإعداد والترجمة، ومثّلت مع زوجها عصام عدة مسلسلات ومسرحيات، وهذا لم يعجب البعض ممن حولها.كما أثبتت حضورًا لها في مجالها، وأتقنت اللغة الألمانية والإنجليزية، وهذا فتح لها عوالم واسعة إذ شاركت في مؤتمرات دولية، وإتقانها للغة ساعدها على العمل في الإذاعة الألمانية أيضًا.

أُشيد بما فعلته طوال سنوات حياتها في دول اللجوء أو في الوطن، قال عنها الكاتب المقدسي محمود شقير في كتابه "قالت لنا القدس"، "لربما كانت بنات القدس أقلّ حظًا من بنات المدن العربية الأخرى في التطرّق لهن، والاعتراف بما لهن من فضل في العلم والأدب والفن، وفي النضال من أجل النهضة والتنوير، والتحرّر من الاحتلال... وربما كانت المقدسية فاطمة البديري من أجرأ بنات المدينة في ثلاثينيات القرن العشرين وما أعقبها من سنوات، حينما التحقت بالإذاعة الفلسطينية في القدس، واشتغلت مذيعة ومعدة للبرامج. كان ذلك يعتبر اقتحامًا غير عادي لميدان غير عاديّ آنذاك، حينما تعمل امرأة في وسط أغلب العاملين فيه من الرجال، وحينما ينطلق صوتها الأنثوي عبر الأثير مخاطبًا أناسًا كثيرين في أماكن شتى".


اقرأ أيضًا: هند الحسيني: وجه فلسطين المضيء


في سنوات عمرها الأخيرة، وبعد رحلة طويلة من اللجوء، نست فاطمة أشياء كثيرة من الذكريات الكثيرة، ولكنها لم تنس حبها لزوجها عصام الذي كان يأمل أن يعيش تحرر فلسطين ويهيئ نفسه ليوم النصر، لكنه توفي قبل أن يحضر اللحظة الذي تمناها ودفن في الأردن، وفاطمة كانت تأمل أن تعود لإلى مسقط رأسها في القدس، وقيل لها مرة في حوار تلفزيوني مع قناة الجزيرة: أنا لو أطلب هلق إذن لأروح القدس ما بيسمحوا لي أروح، بيخافوا أروح أموت هناك، أو أروح أمرض هناك وأقعد عندهم، يعني شيء مؤلم، الحياة مؤلمة، ويأسانة لأنه الأوضاع بتسوء، ونفسي أروح ركض للقدس لو سمح لي".

رحلت فاطمة البديري في عام 2009 بعد ثلاث سنوات من رحيل زوجها، ودُفنت في الأردن، وظل حلم العودة للقدس يراودها حتى نهاية حياتها، وتركت ولدين أحدهما أصبح مخرجًا تلفزيونيًا واسمه مهدي، وخلفت سيرة زاخرة بالإنجازات واسم يعرفه العديد في عالم الإعلام كونها من أوائل المذيعات العربيات.