بنفسج

معصرة الجبريني للسمسم ... في القدس هوية وآصالة

الأربعاء 25 يناير

لطالما كانت القدس مدينة ذات طابع مميز، تلقي به على كل ما فيها، فمنذ ثلاثة قرون ورائحة سمسم القدس مميزة عن كل نظيراتها حول العالم وكأنها امتزجت بجدران وحجارة هذه المدينة.

منذ ثلاثمئة عام ورائحة السمسم المحمص لم تغب عن ذلك المكان، منذ أن كانت بحضرة العثمانيين، ليرثها من هم أصحاب الأرض، ويتمسكوا بما ورثوه عن آبائهم وأجدادهم، في عقبة الشيخ ريحان في البلدة القديمة بالقدس، هناك حيث تنثر معصرة الجبريني للسمسم عبق البلاد والعباد.

ذات باب صغير مهلهل، بمساحة لا تتعدى البضع أمتار، تعتلي زواياها حجارة قديمة ضخمة، وأدوات تقليدية بدائية، بدأت حكايتها قديمًا لتكملها حديثًا لكن بنمط قديم، وإصرار على إحياء إرث فلسطيني تحديًا لاحتلال يسعى، أو لنقل يحلم بطمس إرثنا وموروثنا، طابعنا وتراثنا، قدسنا وفلسطيننا.

معصرة الجبريني .. عبق القدس وحاضرها

 معصرة أبو خرمة الفلسطينية في مدينة نابلس التي تعود إلى عام 1908

إن زراعة وعصر السمسم في فلسطين من الحرف المهمة والقديمة نوعًا ما، تطورت بالتزامن مع تطور الثروة الزراعية، وهناك من يقول إن تاريخ عصر السمسم يعود إلى القرن التاسع عشر الميلادي، أي خلال وجود العثمانين، وهناك من يرى أن الحروب الصليبية قد فتحت أعين الدول الأوروبية على صناعة زيت السمسم؛ وذلك لاشتهار فلسطين به وتصديرها له للخارج، وهو ما يوحي أن تلك الصناعة قد وجدت قبل الفترة العثمانية، وقد كانت المناطق الفلسطيينية تزدهر بزراعة وعصر السمسم.

وهذا ما يؤكده وجود معاصر في كل منطقة، فمثلًا: غزة كانت تحوي (6) معاصر تقليدية، أما القدس ورام الله فحوالي (28) معصرة، و(4) في يافا وتل الربيع، و(5) في نابلس، و(2) في الخليل، لكن تقلص عدد هذه المعاصر لحوالي 28 معصرة موزعة ما بين القدس والخليل ونابلس، كما وتقلصت مساحة الأراضي التي تزرع بالسمسم وأصبحت قليلة جدًا.

 وتجدر الإشارة إلى أن سهل عرابة* كان الأكثر شهرة وازدهارًا في هذه الزراعة. لذلك أصبحت زراعة وعصر السمسم تواجه صعوبات عدة ما دفع المعاصر التقليدية لترك هذه المهنة والتخلي عنها، أو فتح معاصر حديثة تواكب تطور الأدوات الحديثة التي توفر الوقت والجهد والمال، وهو ما رفضته معصرة الجبريني بالقدس جملة وتفصيلًا، وهي التي استمرت بالعمل بهذه المهنة بالطرق التقليدية اليدوية وتمسكت بها.

غدت معصرة الجبريني معلمًا تاريخيًا راسخًا؛ لعراقتها وأصالة مكانتها، حيث أنها بنمط بنائها القديم والقباب التي تعلوها _والتي تعود هندستها بالأصل للعصر المملوكي_ وجهة أطياف الناس المختلفة ومقصد للرحلات المدرسية التعليمية والجامعية.

لعل ما يجعل هذه المهنة بالطرق البدائية شاقة وغير هينة؛ هو أن إنتاج زيت السمسم (السيرج) يتطلب جهدًا جسمانيًا كبيرًا، كما أن إنتاجها يكون بكميات قليلة لاعتمادها على الطحن اليدوي، يقول صاحب المعصرة : "أحمل السمسم 32 مرة ليمر بمراحل مختلفة، وأنقله مرات عدة بين الأحواض والفرن لنقعه، وتنشيفه، وفصل القشرة ومن ثم تحميصه وطحنه. أما المصانع الحديثة، فتختصر كل هذه الجهود لتوكلها للآلات والماكنات".

وإن كنت تتساءل كيف تختلف صناعة الطحينية البدائية عن الحديثة، فسوف تجد إجابتك في السطور الآتية، ينقع السمسم في حوض مملوء بالماء ويترك لحوالي عشرين ساعة، ثم ينقل لحوض آخر ليضاف له 150 كيلو من الملح الطبيعي إلى الماء، هنا تتم عملية فصل السمسم عن قشره وذلك بأن حبوب السمسم تطفو على السطح، أما القشور فتتجمع بالقاع، أما ما يحدث في حوض الماء الحلو، فهو عملية عكسية، ثم ينقل لعصره وتجفيفه من المياه وطحنه، ثم يترك السمسم في الفرن لحوالي 8 ساعات.


اقرأ أيضًا: معالم المسجد الأقصى: عيوننا إليه ترحل كل يوم


يعصر السمسم على الحجارة البلدية _ وهي حجارة بازلتية بركانية عمرها تقريبًا أكثر من قرنين ونصف_ والتي جلبت من سهل حوران، وقد كانت تُنقل في القدس القديمة على الجمال والحمير، هنا تنتهي عملية صنع الطحينية السائلة، لتسكب بعلبها المخصصة وتباع للوافدين للمعصرة، حيث يأتون إليها من شتى محافظات الوطن ليحصلوا على منتج طبيعي خالٍ من الأصباغ والمواد الحافظة.

أما صناعة زيت السمسم فتتطلب مراحل أخرى، حيث يتم تحميص السمسم مرتين: المرة الأولى في آلة التحميص، والثانية في الفرن حتى يغدو لونه بنيًا، وبعد طحنه واستخراج الطحينية منه يوضع في خلاط كبير، ويضاف له القليل من الماء، حيث يلعب دورًا في فصل زيت السمسم عن تفله فيصبح زيتًا نقيًا.

التحديات التي تواجه أصحبا معاصر السمسم

معصرة الجبريني في القدس

تنتج المعصرة أسبوعيًا طنًا واحدًا من كافة المنتجات كالطحينية الحمراء، والطحينية البيضاء، وسمسم الكعك المقدسي، والحلاوة، وحبة البركة وزيت السمسم*، وتزداد المبيعات حسب الأيام والمواسم، فمثلًا يوم الجمعة هو الأفضل مبيعًا، كما أن في شهر رمضان المبارك ترتفع المبيعات، وذلك لاختراق الفلسطينيين من كافة أنحاء الضفة الغربيىة المحتلة الحواجز والموانع الاحتلالية وصولًا إلى مسجدهم الأقصى، والذين يتهافتون لشرائها بكميات كبيرة، ولا سيما أن مذاق هذه المنتجات لا يمكن مقارنتها بمنتجات الماكينات الحديثة، فللطريقة البدائية نكهة خاصة، بالإضافة إلى أن لعبق القدس تأثيرًا مميزًا.

كما أن وجود المعصرة في مدينة القدس بحد ذاته يشكل صمودًا وتحديًا في وجه الاحتلال، ولعل ما تواجهه هذه المعصرة من صعوبات يكمن وراءها احتلال ينغص عيشة أهالي القدس عامة، حيث يلعب دورًا كبيرًا في محاولته التضييق على كل ما هو حي في المدينة المقدسة، وكعادته يستخدم الحجج الواهية والتي يزعم أنها بدوافع قانونية كمخاطر هذه المعصرة على ما حولها وأنها لا تراعي الشروط الصحية اللازمة.

الصعوبات الأخرى في ما يتعلق بنقل المواد الخام للمعصرة وإيصال المنتج للزبائن، وذلك بسبب سياسات الاحتلال التي تقضي بإدخال البضائع وإخراجها قبل التاسعة صباحًا أو بعد السادسة مساءً فقط، وصعوبة وصول الزبائن للمعصرة، وعدم توفر السمسم البلدي، وذلك لمصادرة الاحتلال الأراضي الزراعية المخصصة لزراعة السمسم.

لذا فهي في كل سنة تواجه صعوبة في تجديد ترخيصها، علاوة على إثقال كاهل أصحابها بضرائب الأرنونا* والتي قد تزيد في أغلب الأحيان عن (18 ألف شيكل سنويًا). بالإضافة إلى ضريبة تفرضها البلدية بحدود (6-8 آلاف شيكل كل شهرين)، و(90 ألف شيكل) تدفع سنويًا وتسمى الفروقات، وإذا لم تدفع فإن العواقب وخيمة ما بين الحجز على الحسابات المصرفية، أو أن أملاكه تصبح مهددة بالمصادرة، أو يمنع من السفر أو حتى السجن لحين الدفع.

الصعوبات الأخرى في ما يتعلق بنقل المواد الخام للمعصرة وإيصال المنتج للزبائن، وذلك بسبب سياسات الاحتلال التي تقضي بإدخال البضائع وإخراجها قبل التاسعة صباحًا أو بعد السادسة مساءً فقط، وصعوبة وصول الزبائن للمعصرة، وعدم توفر السمسم البلدي، وذلك لمصادرة الاحتلال الأراضي الزراعية المخصصة لزراعة السمسم، حيث يتم استيراد السمسم من أثيوبيا كما ذكر صاحب المعصرة.


اقرأ أيضًا: فن العمارة في استقراء التاريخ: قصر السيدة طنشق المظفرية في القدس


ختامًا هناك فرق كبير، وفجوة متسعة بين أصحاب الأرض ومحتليها؛ فنحن شعب تعجبنا رائحة الزعتر والياسمين أكثر من تلك الروائح التي أحضرها المحتلون من حيث قدموا؛ من فرنسا وألمانيا والإكوادور وغيرها، نحن نحب الجلوس على التراب وأكل "الخبيزة " أكثر من وجبة "أندر كوت" في نواديهم الباذخة، نحن نحب رائحة السمسم وكعك القدس بالسمسم ونفضلها في كل صباح، وهذا ما يجعل المدينة متصلة بأهلها، وكما قيل : "فالقدس تعرف نفسها.. إسأل هناك الخلق يدْلُلْكَ الجميعُ فكلُّ شيء في المدينة ذو لسانٍ، حين تَسأَلُهُ، يُبينْ".


| الهوامش والمصادر

[1] سهل عرابة: هو من السهول الداخلية شبه المغلقة في محافظة جنين، وتطل عدة قرى وبلديات عليه.

[2]  زيت السمسم: هو نوع من أنواع الزيوت النباتية يستخلص من بذور السمسم، لونه أصفر مائل للبني، ويستخدم بالطهي لقيمته الغذائية ويقي من بعض الأمراض.

[3]  الأرنونا: هي مصطلح عبري يعني ضريبة الأملاك، تُفرض من قبل السلطة المحلية على المالك الفعلي للعقار بهدف تمويل الخدمات المقدمة كالصرف الصحي وخدمات التنظيف والصيانة والإضاءة ومجالات التعليم والثقافة والصحة، وتكون رسوم الضريبة سنوية تحدد وفقًا لطبيعة استخدام العقار ومساحته وموقعه.

[4] الجزيرة نت.

[5] حارة المعصرة، مازن أهرام، اصدار صادر عن هيئة أشراف بيت المقدس.

[6] أحلام عبد الله، وكالة سند للأنباء.

[7] هبد أصلان، العربي الجديد.

[8] ملكي سليمان، الحياة الجديدة.

[9] د.سارة حسونة، معاصر السمسم في فلسطين، دراسات في آثار الوطن العربي.