ذكرينا يا بقايا الأمس فينا.. آه ما أقسى الحنين، زادنا الشوق أنينًا.. حدثينا، ما للجدران خَرسا؟ حين انسابت الأنشودة من بين مكبر الصوت، داهمتها الدموع كفيض لا يُقاوَم. كان صوته هناك، يملأ الفراغ الذي خلّفه الغياب، يوقظ فيها وجعًا ظنّت أنها دفنته مع آخر خبر عنه. استندت إلى جدار الذكرى، منهكة من الفقد، تستعيد ملامحه التي ذابت في ضوء الرحيل. كانت تنتظر أن يلتئم شمل غزة، شمالها بجنوبها، وأن تراه يعود كما وعدها ذات مساء، لكن القدر كان غالبًا.
حين بلغها خبر رحيله، تجمّد الزمن في عينيها، وتجمع أطفالها الثلاثة حولها يبحثون عن معنى الموت في وجه أمهم الصامت. كيف تخبرهم أن المنشد الذي طالما رثى الشهداء بصوته المبلل بالإيمان، صار اليوم واحدًا منهم؟ صار النشيد عليه لا منه، وصارت كلماته جنازة تمشي على ألسنة المحبين.
نستضيف هنا آلاء أبو دقة، زوجة المنشد الشهيد راثي الشهداء حمزة أبو قينص، لتحكي عن الرجل صاحب الصوت العذب، والزوج الحنون، والأب المثالي، وعن لحظات الغياب القاسية.
يوم أن سكت صوت "راثي الشهداء"

في الثالث عشر من أكتوبر عام 2024، جاءها الخبر الذي خنق أنفاسها: "حمزة استُشهد". كانت في جنوب غزة، وهو في شمالها، يقاتل بثبات لا يعرف الوهن. تجمد الزمن لحظتها، شعرت أن الأرض تميد تحت قدميها، وأن قلبها يوشك أن يتوقف، بينها وبين الموت أنفاس معدودة، لكنها سرعان ما تداركت نفسها، ورددت بصوت متهدج: "اللهم رضيت، اللهم هوّن عليَّ فقده".
تقول آلاء بصوت مختنق:
"عشت أيامًا مريرة لا أعرف إن كان على قيد الحياة أم رحل شهيدًا، خمسَة أشهر من عمر الحرب لا أعلم عنه أي خبر. ثم تواصلنا بعد غياب، فقلت له إنني تعبت في غيابه، فقال لي: (تحمّلي، كله بأجره، بدك الجنة ببلاش؟)".
كان الرحيل فاجعة صامتة، تسلّل بهدوء إلى بيت كان عامرًا بالضحكات، فصار صدى الذكريات هو المقيم الوحيد. لم يكن غيابه عابرًا، بل انكسارًا عميقًا في حياتها وحياة أطفالها الذين بدأوا يتعلمون كيف يعيشون دون أبيهم، الصديق والأب والسند.
خلفاء الصوت العذب

للمنشد حمزة أبو قينص ثلاثة أطفال: لانا، بلال، ومحمد. تشبهه لانا في صوته وضحكته ومشيته، تنشد أناشيده بين إخوتها، فتشعر أمها أن وجه حمزة يلوح أمامها. أما بلال، فملامحه تشبه والده وصوته أيضًا. تقول آلاء: "أرى حمزة في محمد، آخر العنقود، الذي ورث عن أبيه حسه الفكاهي، حين يتحدث أشعر بروح حمزة، فسبحان الواهب الذي وهبني أطفالًا كأبيهم، يهونون عليّ فقده."
تضيف: "تأثر الأولاد جميعًا برحيله، وخصوصًا بلال، فهو أكثر من تأثر نفسيًا، وعندما أغضب منه، يقول لي: (لا تزيدي قهري، أنا مقهور بما فيه الكفاية)." تحكي أنه وجد نفسه مسؤولًا عن مهام أكبر من عمره، وهو لم يتجاوز التاسعة بعد. يذكر بلال والده جيدًا، وكذلك لانا، فقد كان حنونًا ومقرّبًا منهم، وكلما داهمهم الشوق، يشاهدون مقاطع أناشيده. أما محمد، فلم يعرف والده حقًا؛ فقد جاءت الحرب وهو لم يبلغ عامًا من عمره.
تقول آلاء: "كان والدهم يقول لي دائمًا: لا تجعليه ينساني، أريه صوري وفيديوهاتي باستمرار، وتحدثي له عني."
وحين يشاهد محمد والده في الفيديوهات، يسأل ببراءة: "وين بابا؟" فتجيبه: "بالجنة." فيرد: "بدي أروح عنده." تصمت آلاء وتتأمل الفراغ، مستذكرة كيف كان حمزة يملأ حياتهم بالفرح، وكيف صار غيابه وجعًا لا يهدأ.
ذكرى صاحب الصوت البهي

ستة عشر عامًا قضتها آلاء إلى جانب حمزة، لم ينسَ خلالها يوم زواجهما، كان في كل عام يخطط لاحتفال بسيط يجمعهما، ويقول مبتسمًا: "هذا العام هو الأجمل"، ليجعل العام الذي يليه أجمل. كان يقول لها دائمًا: "لازم تكوني قوية وتعتمدي على نفسك، أنا اليوم معك، بكرا يمكن لأ." كانت كلماته تلك تقبض قلبها، إذ لم تتخيل يومًا أن تعيش بدونه.
شجعها باستمرار على نيل رخصة القيادة، وإكمال دراستها الجامعية، واكتساب المهارات من الدورات التدريبية، لكنها كانت ترفض، قائلة إنها لا تحتاج شيئًا طالما هو إلى جانبها. لكن بعد رحيله، أدركت لماذا كان يلحّ عليها في أن تتعلم وتستقل، فقد كان يُعدّها ليومٍ لا يكون فيه إلى جوارها، ليعلّمها أن تكون قوية كما أرادها دائمًا.
اقرأ أيضًا: عدسات المقاومة: النساء الفلسطينيات وتوثيق الحرب في غزة
تقول آلاء إنها تعلمت في الحرب ما لم تتعلمه طوال حياتها، وعاشت مواقف قاسية كادت تفقد فيها طفلها بلال حين سقط عليه صاروخ ولم ينفجر، فعاد إليها يرتجف ووجهه مصفرًا. وقبل استشهاد والده، كان بلال قد رأى الأشلاء لأول مرة وهاتفه يخبره عن المشهد المروع، فكان على آلاء أن تحتوي رعب طفلها وحدها، دون حمزة.
تفتقد آلاء روح حمزة الخفيفة التي كانت تملأ البيت فرحًا، وتشتاق إلى طقوسه أثناء إنتاج الأناشيد، حين يستمع إليها لساعات حتى يكتشف الأخطاء ويعدّلها. تختم حديثها: "كان محبًا للأناشيد القديمة، ينشد في كل الأوقات، ويُفضّل أنشودتي (خيوط الشمس) و(ثوار)."

