في لحظة واحدة تغيّر كل شيء. كانت تحمل طفلتها ذات الخمسة أشهر على ذراع، وتمسك بكف الصغيرة الأخرى التي بدأت تخطو أولى خطواتها، حين وصلها الخبر الذي شل روحها قبل جسدها: "انقصفت شقتك، وزوجك ووالداه وأخته استُشهدوا... مضلش حد." لكن الموت لم يكن نهاية واضحة، بل بداية لوجعٍ معلق؛ لا جثمان يُبكى عليه، لا وداع، لا جنازة، لا قبر تحتضنه الأرض، ولا حتى رواية دقيقة عمّا حدث. كانت بعيدة، وحيدة مع ابنتين لا تعيان بعد حجم الغياب.
انقلبت حياتها منذ ذلك اليوم الذي غاب فيه الأب، وتركها أمًّا وحيدة تصارع الألم، تبحث عن ملامحه بين الوجوه، تتمنى لو أنّ ما حدث لم يكن سوى كابوس. تنظر إلى وجوه بناتها وهنّ ينادين "بابا"، فتبكي بكاء السنين. قابلنا هيا أبو عرجة، زوجة الشهيد عبد الحليم مرتجي بنات، لتروي لنا عن الرجل العصامي الذي عاشت برفقته أجمل سنين العمر، وتحدّثنا عن ابنتيها ألما وآيلن اللتين تنظران إلى صور والدهما كل مساء.
صدق الحدس

افترقا منذ اليوم الأول للحرب، وتعاهدا على اللقاء مرة أخرى. كان خوفه عليها وعلى بناته أعظم من أي رغبة في القرب منهنّ. شعر بقرب الأجل، حتى إنه كتب وصيّته قبل اندلاع الحرب، وصدق حدس الرجل الذي تصفه زوجته بـ"التقي النقي"، والذي لُقّب في أكتوبر 2023 بـ الشهيد عبد الحليم بنات.
استُهدف مع والديه وشقيقته في شقّتهم في الطابق الخامس، فتحولت الشقة إلى رماد، فيما نجا من كان في الطوابق السفلية وأكدوا استشهاد من في الأعلى. لكن الحبيبة لم تُصدق أن حكايتها مع فارسها النبيل انتهت بهذه السرعة؛ فما زال في العمر متسع لأحلام لم تكتمل.
تقول بصوتٍ مختنق: "قُهرت جدًا عندما وصلني الخبر، قصفوا الطابق الخامس أولًا ثم العمارة بأكملها، وجرفوها بعد اجتياحهم المنطقة، ولم يعد هناك أي أثر لجثة زوجي وأهله. عدت إلى مكان البيت بعد سنة وثلاثة أشهر، بحثت فلم أجد أي أثر... هو وكل الذكريات دُفنت."
اقرأ أيضًا: في ذكرى الوداع الأول للعائلة.. وداع آخر وفقد أثقل
كانت ابنتها ألما تبلغ عامًا ونصفًا آنذاك، وتسأل كثيرًا عن والدها. تصمت هيا، ولا تجد جوابًا، وتتساءل: "ماذا لو ظهر فجأة وقال: أنا حيّ؟ ثم ابتسم ابتسامته المعهودة؟" يهوي قلبها لمجرد الخيال، فكيف لو صار حقيقة؟
قبل اندلاع الحرب بفترة وجيزة، أخذ عبد الحليم طفلتيه ألما وآيلن لتصويرهما عند المصوّر المعروف يحيى برزق، وأخبره بخوفه على بناته وشعوره بقرب الرحيل. دعا له المصوّر بطول العمر، لكنه رحل في 29 أكتوبر 2023، ثم لحقه يحيى في أكتوبر 2025، لتبقى الصورة شاهدًا على أب حنون ومصور كان يلتقط بعدسته بقلبه لا بعينيه.
ذكرى الرجل العصامي

التقى عبد الحليم بهيا عام 2019، وأخبرها عن سنين الشقاء التي عاشها طلبًا ليوم من الراحة. عمل في التجارة منذ طفولته، وببلوغه الخامسة والعشرين كان قد امتلك بيته وتجارته الخاصة، بالتزامن مع دراسته للبكالوريوس التي أنجزها في ثلاث سنوات ونصف، ثم أنهى الماجستير في إدارة الأعمال خلال عام ونصف فقط.
وفي عام 2021 رزقه الله طفلته البكر ألما، وكان متحمسًا لتجربة الأبوة، ثم وُلدت آيلن عام 2023، فامتلأت حياته بالآمال والأحلام من أجلهما. تقول هيا والدموع تملأ عينيها: "عامان على فراقه وما زلت أنتظره أن يعود. فكرة أن تودّعي أحدًا دون جنازة أو قبلة وداع صعبة جدًا. أقف عاجزة أمام تساؤلات بناتي عن قبر والدهن... كل ما كنت أريده أن يكون له قبر فحسب."
تعيش هيا الآن على الذكريات، تستعيد لحظات الفرح والضحك، يلوح وجهه أمامها وهو يساندها في تعبها، يحتفل بأعياد ميلاد الأحبة، ويردد في الشدائد: "الصبر الصبر... اللي بصبر بنول." تقول هيا: "ما كنا بدنا إلا نعيش حياة بسيطة وآمنة بس."
حين انقطع حبل الموت

نجت هيا وبناتها من الموت مرات عدة. في إحداها نزحت إلى بيت يشبه بيتها، لكنها أصيبت بنوبة اكتئاب رافقها حزن شديد. تقول بصوتٍ متحشرج: "سكنت في مكان آيل للسقوط، أصلحنا الطابق السفلي وبقينا فيه، وفي يوم انهار حجر كبير بالقرب من ابنتي ألما فنجت من موتٍ محقق، ثم تكرر الموقف مع آيلن، فقررت مغادرة المكان لأنه لا يصلح للعيش. تمنيت لو أن عبد الحليم معنا لنحتمي به من أذى الدنيا."
تتابع: "نجونا من الموت ليلةً أشعلت فيها ابنة عمي ضوءًا خافتًا جدًا، فانهال علينا الرصاص من كل مكان، وبناتي حولي يبكين... شعور العجز حينها كان قاتلًا. وفي مرة أخرى تم استهدافنا، فنجوت أنا وبناتي واستُشهدت أختي فاتن الأقرب لقلبي أمام عيني، وأختي آية في الطابق العلوي، ولم أحظَ بوداعها."
رحل عبد الحليم تاركًا طفلتيه تقفان على شباك بيت مدمر تناديانه كل يوم، فيما تصر هيا على أن تحدّثهما عنه دائمًا، خوفًا من أن تنسيا رجلًا كعبد الحليم. تختم حديثها قائلة: "يا الله شو مشتاقة... ياريته معنا، ياريت."

