“إوعديني لو استشهدت ما تبكي عليّ”. كان صوته مترددًا بين الرجاء والحزم، يحاول انتزاع الوعد منها كما ينتزع الغريق آخر أنفاسه، لكنها كانت تصرّ على التهرّب، لا تريد أن تنطق بحرفٍ عن فراقه، فكيف تتخيّل الحياة بلا حضوره، بلا تلك الرفقة البهيّة التي كانت تسند قلبها كلما ضاق؟ كانت ترجوه أن يترك الشمال ويرحل معها، لكنه كان يرفض، متمسكًا بالأرض التي يحب.
وفي آخر اتصالٍ بينهما، بدا صوته بعيدًا كأنه قادم من زمنٍ آخر، يوصيها بنفسها وبالأولاد، بينما هي تكذّب قلبها وتهمس لنفسها: “سأعود للشمال وسأجده بانتظاري”. لكنها عادت ولم يستقبلها بضحكته، ولا صوته الذي كان يملأ المكان حياة. أغمضت عينيها في محاولةٍ لاستيعاب الصدمة، فإذا بصدى صوته يباغتها في لحظة سكون: “أنا وأنتِ روحٌ واحدة، ما تتركيني”. فتسأل نفسها وهي تنتحب: “كيف فعلتها يا إبراهيم؟ كيف تركتني أُقاتل هذه الحياة وحدي؟”
هنا نفرد المساحة لزوجة الشهيد إبراهيم أبو الطرابيش، ياسمين محمد، لتحكي لنا عن صمودهم في شمال غزة، ولحظة تلقي الخبر الأصعب على الإطلاق؛ عن أن تكون فاقدةً مكلومةً انطفأ بريق الحياة في عينيها بعد فقدان الحبيب، وعن الأطفال الثلاثة الذين يصرّون على حاجتهم لأبيهم.
في وداع الحبيب

في 10 ديسمبر 2024، استُشهد إبراهيم وحيدًا في شمال غزة، بعد أن أصرّ على إرسال عائلته إلى برّ الأمان خوفًا عليهم، وكان يحمل أملًا واحدًا فقط: أن تنتهي الحرب، ويجمعه اللقاء بهم من جديد.
تقول زوجته لـ”بنفسج”: "قبل أسبوعين فقط من استشهاده كنا معًا، لكن أمر الله نافذ. عندما وصلني خبر استشهاده، لم أستوعب، قلبي لم يُهيأ لفاجعةٍ كهذه، لم أكن مستعدةً لوداعٍ لا رجعة بعده. طوال فترة فراقنا، كان يتصل بي باستمرار، كان صوته يحملني من خوفي إلى طمأنينةٍ مؤقتة، وكان يقول: ‘سنلتقي حتمًا.. وستنتهي الحرب".
تضيف بألم:"لكن في الاتصال الأخير بدا صوته مختلفًا، كأن في نبرته وداعًا لا يُقال، وكان قلبه يشعر أن الأجل بات قريبًا، وأصرّ عليَّ أن لا أبكي عند استشهاده، لكنه يُبكى عليه العمر كله".
اقرأ أيضًا: فادي لم يهد.. وكل الطرق تؤدي إلي قهر الغياب
لم تعرف ياسمين كيف تنطق بالحقيقة، فخبر استشهاد إبراهيم كان أكبر من قدرتها على التحمل، فكيف تُلقيه على قلوبٍ صغيرةٍ لا تعرف من الدنيا شيئًا بعد؟ كانت أمًّا لثلاثة: تيا، فُلّة، ومحمد. تيا (9 أعوام) كانت الأقرب إليه والأكثر وعيًا، تشبهه في ملامحه وحنانه، وقد كانت صدمتها كصدى الصدمة في قلب أمها. تقول ياسمين: "تيا انهارت، لم تتخيّل حياة دون والدها الذي كان حضنه عالمها الصغير".
أما فُلّة، صغيرة أبيها ومدللته، فلم يكن عمرها كافيًا لفهم الموت، لكنها قالت ببراءةٍ موجعة: "بابا راح على الجنة.. لو ضلّينا معه، كنا استشهدنا ورحنا الجنة سوا". محمد، الذي يبلغ من العمر ثلاث سنوات فقط، آخر العنقود وصديق أبيه، فقد وقف يومها ينظر إلى أمه، حاجباه معقودان بجديةٍ أكبر من عمره، وقال: “ماما، بدي أموت عشان أروح على الجنة عند بابا”.
ذكرى “بابا” إبراهيم

كانت ياسمين تُحدث أطفالها عن والدهم، عن تسع سنواتٍ قضتها إلى جانبه، وكيف أسر قلبها منذ اللقاء الأول، حين احتلّ مكانًا لا ينافسه فيه أحد.
تحكي لهم عن تفاصيله الصغيرة، عن الأمان الذي كان يحيطها به. وحتى اليوم، ما زالت تحتفظ بالمحفظة التي أهداها بحب، وبصورٍ تجمعهما معًا.
في لحظات الاشتياق، تفتح الصور ببطء، تحدّق فيها طويلًا، علّها تُخفّف من وطأة الفقد.
تقول ياسمين: "أخبروني أن بيتي قد قُصف، لكنني لم أحزن عليه، فالأغلى منه قد ذهب. لكنني أفتقد الذكريات فيه، وأحنّ إليه، لكنني لا أستطيع تخيّله دون وجه إبراهيم الذي بذل جهده ليبنيه، ليكون لنا وطنًا صغيرًا".
كان إبراهيم يبني أحلامه الصغيرة مع أطفاله، يُلبي طلباتهم بمحبة، ويجد أعظم سعادته حين يرى الفرح يقفز من وجوههم البريئة. تقول ياسمين: "كان يختار ملابسهم بنفسه، يعود من العمل محملًا بالحلوى، يخطط مع محمد، آخر العنقود، لنزهاتهم القادمة، ويتحدث إليه كصديق، كأنه يعده بأن القادم سيكون أجمل".
اقرأ أيضًا: أحمد المدهون& ولاء صافي: احتلال يسرق الحب والأماني
يسأل أطفال إبراهيم والدتهم بصوتهم الطفولي: "هو بابا راح عالجنة؟ يعني بابا بياكل كل الحاجات الحلوة بالجنة وبنام مبسوط؟ طب ليش راح لحاله وتركنا؟". تحاول ياسمين قدر استطاعتها أن تعوّض أطفالها عن غياب والدهم، تزرع فيهم ملامحه التي أحبتها: قوته، وعقلانيته، وحنانه، لكنها، رغم كل محاولات الصبر، تحتاجه في كثيرٍ من المواقف.
تقول: "افتقدته بشدّة وقت النزوح، كنت تائهة، لا أعرف أين أذهب، وماذا أفعل، لكن برفقته، لم أكن أحتاج للسؤال عن وجهتي، برفقته كنت أعرف أنني بأمان. يوم قُصف المنزل الذي نزحت إليه، أصبنا جميعًا، ونجونا من الموت بمعجزة. في تلك اللحظة، لم أحتج شيئًا قدر حاجتي إليه".

