بنفسج

مصرية وفلسطيني: عن فراق الحبيب حيًا وميتًا

الإثنين 22 سبتمبر

الأطفال الأبتام في غزة
الأطفال الأبتام في غزة

في لحظة فارقة بين الحياة والموت، وبين انتظار المجهول والأمل بلقاء مهيب، رنّ هاتفها بصوتٍ مرتجف يحمل وراءه نبأً ثقيلًا. كانت شقيقة زوجها على الطرف الآخر، تقول لها كلمات بسيطة: “قولي لا إله إلا الله”.  عندها اجتاحتها الهواجس، ومرت أمام عينيها كل الاحتمالات السيئة، إلا أن الحقيقة كانت أوجع من كل ما خطر ببالها… معاذ، رفيق عمرها، استشهد.

انهمرت دموعها بلا توقف؛ فهو الذي رحل مشتاقًا لها ولصغيريه. لم تستوعب كيف يمكن أن تخبر طفليها بالخبر، وهما اللذان ينتظران عودة والدهما منذ عامين بلهفة لا تهدأ، يرسمان ملامحه في مخيلتهما، ويحلمان بلحظة اللقاء. كان لقاؤهما الأخير عند معبر رفح، الفاصل بين غزة ومصر، إذ ذهبت هدى لزيارة عائلتها في القاهرة، ومُنعت من العودة إلى غزة، كما مُنع معاذ من السفر إليها وإلى أطفاله.

هنا نروي قصة هدى عصام على لسانها، في حوار أجريناه معها، زوجة الشهيد معاذ النجار، عن فراق الحبيب حيًّا وميتًا، عن الشوق الذي كان كالسيول الجارية، وعن الأمل في لقاء قريب رغم استحالته. إلا أن ساعة الرحيل قد دقّت، ورحل الرجل الذي عرفته منذ زمن مقهورًا على فراقها وأطفاله، وبين غزة والقاهرة كانت هناك حدود لا تسقط.

رحيل “أبو جبل”

الأطفال الأبتام في غزة

في 19 نوفمبر 2023، استُشهد معاذ في أزقة مخيم جباليا الذي شهد على قصة حبه لهدى. فمن شوارع القاهرة إلى شوارع المخيم، وقعت في حبه منذ النظرة الأولى، وعاشا معًا خمس سنوات تصفها هدى قائلة: “أجمل سنين العمر.. كانت مثالية”.

لكنّ الفراق حلّ في العام 2021، حينما سافرت هدى مع طفليها لزيارة عائلتها في مصر، ثم مُنعت من العودة إلى غزة. حاول معاذ أن يسافر إليها أكثر من مرة، لكن كل محاولاته باءت بالفشل. مرّ شهر، ثم آخر، وتلاه عام تلو عام، ولم يتغير الحال، حتى اندلعت حرب الإبادة الجماعية، لتعيش هدى الجحيم من قلب القاهرة؛ فقد كان البعد قاتلًا.

قبل استشهاده بأيام، رأت هدى رؤية في المنام أنه ارتقى شهيدًا، لكنها ظنّت أنها مجرد كابوس من فرط التفكير والخوف عليه. وحين وصلها الخبر، تذكرت الرؤية وبكت طويلًا. تقول بصوت واهن: "كنت وحدي في البيت وقتها، لم أستوعب كيف ستكون الحياة بلا معاذ. وعلى الرغم من أن كلًّا منا كان في بلد مختلف بالإجبار، إلا أنه كان حاضرًا معي في كل شيء رغم الفراق. هو مساحتي الآمنة، وصندوق أسراري، وملجئي الأول”.


أقرأ أيضًا: فادي حسونة... شهيد العدسة وحارس الحقيقة


لهدى ومعاذ طفلان: مسلمة (8 سنوات)، سُمّي تيمنًا باسم أستاذ والده الشهيد، ومحمد الذي سُمّي باسم شقيق معاذ الذي استشهد في مسيرات العودة. كانا يحلمان بلقاء والدهما، لكن أمر الله نافذ. تقول هدى: "كانا وقتما وصلني الخبر في الأكاديمية التعليمية. لم أستطع النزول إليهما وحدي، فحادثت المديرة فجلبتهما بنفسها بعد الدوام. أخبرتهما بالتدريج، إذ كانت معلمتهما قد هيأتهما لهذا اليوم”.

تكمل بحزن: “محمد كان عمره عامين فقط حين خرجنا من غزة، لكنه الآن يبكي والده ويسأل عن تفاصيل استشهاده، ويقول لي: أنا بعيط عشان بابا.. أنا مش موافق إنه يستشهد، أنا عايزه يرجع. أما مسلمة فلا يتحدث كثيرًا، لكنه حين يُسأل ماذا تود أن تصبح عندما تكبر، يرد: زي بابا”.

محطات من حياة “بابا معاذ”

الأطفال الأبتام في غزة

كان معاذ أبًا استثنائيًا، حنونًا على هدى وأطفاله. يستيقظ صباحًا ليُعدّ طعام الإفطار لصغيريه، ويصطحبهما في مشاويره. تقول هدى: "مسلمة كان متعلقًا به جدًا، لم يكن يقبل أن يشرب الماء إلا منه. أما محمد، فلم يعش معه كثيرًا ولا يتذكره جيدًا، لكن معاذ كان يتصل بنا أكثر من مرة يوميًا، فتعلق الصغير به”.

لطالما أرسل معاذ الهدايا لعائلته في مصر، مرفقة برسائل يخطها بيده. كان يصوّر البيت لهدى كلما اشتاقت. تضيف هدى: للأسف، فقدت بيتي بعد استشهاد زوجي بفترة. كان لدينا أمل أن نعود إلى غزة ونعيش بين ذكرياته، لكن الذكرى الأجمل هي أولادنا؛ كلما نظرت إلى مسلمة وابتسم قال لي: طبعًا فكرتك ببابا”.

تتذكر هدى ملامحه جيدًا رغم مرور أربعة أعوام على اللقاء الأخير. وفي لحظات ضعفها، تستحضر كلماته عن الصبر واليقين: "كان يقول: يُبتلى المرء على قدر إيمانه، ويقول لي: إنتِ ربنا شاف فيكِ خير، عشان هيك جابك أحسن أرضه، بس توكلي عليه وما تخافيش. وكان دايمًا يقولي: ما برضى بزوجة غيرك في الدنيا والآخرة”.


اقرأ أيضًا: فرح المقيد: فتح بدأ بالقرآن ولأجله أكملت المسير


تفتقد هدى زوجها في كل خطوة جديدة تخطوها مع صغيريها. تتمنى لو تعود بها الأيام إلى السنوات الأولى من زواجهما. تقول مبتسمة بين الدموع: "كلما أرهقني ألم الفراق، تذكرت لقائنا التعارفي الأول في الإسكندرية، فأبتسم”.

وعن كيف جمع القدر بين فلسطيني ومصرية، تقول: "عائلاتنا كانوا أصدقاء مقربين أثناء عيشنا في السعودية قبل أن يعود كل منا إلى وطنه. التقينا أول مرة عام 2012 خلال مؤتمر كشفي بالإسكندرية، ومن هنا بدأت القصة، حتى تزوجنا لاحقًا”.

تختم هدى حديثها بيقين راسخ: “هيفضلوا ولادي فلسطينيين، وهيجي يوم ونرجع غزة، وندخل مخيم جباليا، ويكون لأولاد معاذ النجار بصمة بالمجتمع بطيب الأثر والخلق الحسن”.