بنفسج

حين صار البيت قبرًا: حكاية روان وشهيدها الصغير

الأحد 19 أكتوبر

عدد النساء الشهيدات في غزة
عدد النساء الشهيدات في غزة

يقف الفتى يامن  قنيطة عند ركام البيت، يحدّق في الحجارة والسقف الإسمنتي الذي تفتّت فوق الأحبّة فدفنهم تحته. ترتعش أطرافه كلما أدرك أن والدته وشقيقه الصغير ما زالا تحت الأنقاض، ويتمنى لو امتلك قوّة خارقة لينتشلهما من بين الركام.

كل ليلة، ومع صرير الليل الذي لا يهدأ، يهمس لنفسه بأسئلة تمزّق صدره الموجوع: “هل ما زالا على قيد الحياة؟ هل تعذّبا قبل أن يستشهدا؟ هل بقي جسدهما كاملًا؟” تنخر الأسئلة رأسه كالسكاكين. ومنذ أن خرج حيًّا من تحت الأنقاض بعد ساعاتٍ من الألم، أقسم ألا يغادر المكان. يبيت بجوارهما، على الركام البارد.

هنا تروي لنا الصحافية إيمان شبير قصة استشهاد شقيقتها روان، مستشارة العائلة الأولى، الحكيمة الوقورة، والأم المثالية؛ عن تلك التي كانت ملاذًا الجميع، التي حملت قلبًا واسعًا لا يعرف سوى الحنان. تحكي عن أطفالها الناجين المقهورين من سطوة الفقد، وعن ابنها المرابط على ركام البيت ليبقى قريبًا من أمّه.

حبيبة البيت

الأطفال الشهداء

قبل يومين من السادس من سبتمبر 2025، نزحت روان من منزلها الواقع في حي النفق بمدينة غزة بعد أوامر الإخلاء، لكنها لم تحتمل البعد عن البيت فعادت إليه كعودة المغترب إلى حضن أهله. تقول إيمان لبنفسج: “كان قلبها معلّقًا ببيتها، قلقة عليه وكأنها تخشى أن ينهار بدونها. خلال نزوحها القصير، جلبت الحلوى لأهلي من دون مناسبة، وطلبت من أختي الصغيرة هند أن تزيّن لها أظافرها. كانت مبتهجة، مستريحة، كأنها في وداعها الأخير للحياة.”

وعن يوم الاستهداف الغادر قبل الفجر بدقائق، تضيف: “نادت طفلها الصغير محمد الذي نحب مناداته كِركِز، وضمّته إلى صدرها، وبعد دقيقة واحدة فقط نزل الصاروخ. فاستشهدت روان ومعها ابنها، وأُصيب زوجها وأطفالهما الآخرون، وظلّوا تحت الركام لساعاتٍ طويلة يقاتلون شبح الموت والفقد.”


اقرأ أيضًا: ياسمين محمد: أوصاني خليلي بأن لا أبكي عليه شهيدًا


لم يصل الخبر إلى إيمان مباشرة، بل إلى زوجها أولًا، فقال لها: “تعالي نروح عند إمي نشوفها.” وهناك أخبرها بالخبر الأشدّ وطأة على القلب، فصرخت صرخة لو كانت الأرض تشعر بالقهر لاهتزت وقتها. لم تستوعب أن ملجأ العائلة والظل المتين لهم قد رحل.

تردف إيمان وهي تضع يديها على قلبها الذي ينبض بعنف:“في الليلة نفسها، قبل استشهادها، أصابني ضيق شديد. حاولت أن أخرج لأتنفس، لكن كل الأماكن ضاقت عليّ، وكل الطرق انغلقت في وجهي. وعند الفجر اشتدّ الخنق على صدري، شعرت أن شيئًا فادحًا يحدث، ولم أكن أعلم أن شقيقتي تحلق روحها إلى السماء في تلك اللحظة.”

حين صار البيت قبرًا

استهداف المنازل في غزة

قُصفت روان في قلب المنزل الذي أحبته، ذلك البيت الذي كان روحها، فدُفنت فيه. تركت خلفها طفليها يامن وجودي وزوجها الذين نجوا بأعجوبة، أمّا الطفل محمد فكان رفيقها في الرحيل. لم يستطع أحد الاقتراب من البيت لمحاولة انتشالهم بسبب الأحزمة الناسفة والروبوتات المفخخة.

تقول إيمان عن أطفال روان الناجين من الموت المحقق: “جودي ذات الثلاثة عشر عامًا حافظة لكتاب الله، وقد احتفلت بها روان قبل شهرين من استشهادها. حزنت لأنها لم تُستشهد في الحرب، كانت تنتظر الشهادة لأجل لقاء مع أمها. أمّا يامن، ابن الخامسة عشرة، فما زال حتى اليوم يبيت فوق ركام بيتهم، كي يبقى قريبًا من أمه وأخيه محمد. هذه تفاصيل مؤلمة تمزق القلب وتعيد الوجع من أوله.”

تستذكر إيمان صوت روان الذي كان مليئًا بالأمل، وهي تقول: “أنا متفائلة رغم كل شيء، والله حاسة إنه رح يكون خير.”
وعلى الرغم من الواقع المأساوي، وكل الدلائل التي كانت تشير إلى مستقبل أكثر سوادًا، لم تفقد تفاؤلها يومًا.

تتابع إيمان: “قالت لي إنها لن تنزح إلى الجنوب، وأضافت بابتسامة هادئة: إذا صار نزوح، أنا ما رح أكون، رح أكون مستشهدة. رفضت فكرة النزوح رفضًا قاطعًا، وفعلاً، لم تنزح، بل رحلت شهيدة كما قالت.”

روح البيت التي غابت

عدد النساء الشهداء في غزة

لم تكن روان أختًا فحسب، بل أمًّا ثانية. كان حضنها الملجأ على الدوام، تبث الأمل في القلوب. كانت تحلم أن تنتهي الحرب لتذهب لأداء العمرة، أن تغسل قلبها من كل ما رأته، وأن ترى غزة تتنفس من جديد، وأن تبقى العائلة مجتمعة بخير. كانت دائمًا تردد: “يا رب نستشهد سوا، عشان ما حدا يتحسّر على الثاني.”

منذ رحيل روان، سند والديها، عمّ الحزن البيت، وصوتها لا يزال يتردّد في أرجائه وهي تقول: “الله ينجينا جميعًا بخير، وإذا مش بخير، بخاتمة طيبة.” رائحتها ما زالت عالقة في بقايا ثيابها التي نجت من القصف، في عباءتها التي كانت ترتديها دومًا.

تختم إيمان حديثها قائلة: “روان الابنة التي تعرف كيف تزرع الفرح في بيتٍ مثقلٍ بالحزن. أمي اليوم مكسورة، صامتة أغلب الوقت، تقول إن قلبها دُفن مع روان. وأبي، كلما سمع ضحكة تشبه ضحكتها، يغيب بعينيه بعيدًا. الفقد غيّرنا جميعًا، صرنا نعيش بلا روح. الحرب أخذت أيضًا أعز صديقاتي وأبناء خالي وكثيرين من الوجوه التي أحبها قلبي.”