لم يكن زيتون المسجد الأقصى مجرد أشجار تُغرس في الأرض، بل هو جزء أصيل من هوية المكان وروحه. ففي باحات الأقصى، تقف أشجار الزيتون شاهدة على تاريخ طويل، تحاول يد الاحتلال طمسه ومحو آثاره من الذاكرة الفلسطينية، لكنها تظل شامخة، كأنها حراس من زمن الأنبياء. ليست مجرد أشجار، بل شواهد حية على الصمود، وعلى شعب يتمسك بأرضه ومقدساته رغم كل محاولات التهويد والطمس.
يحمل زيتون الأقصى رمزية روحية ووطنية عميقة؛ جذوره ضاربة في تراب الأرض المباركة، وأغصانه تلامس سماء القدس، شاهدة على الصلوات والمواسم، على الجراح المتكررة وعلى الأمل المتجدد. ولا يقف الزيتون في الأقصى كعنصر طبيعي فحسب، بل كجزء من الهوية الروحية والتاريخية للمكان. فقد ورد ذكر الزيتون في القرآن الكريم في أكثر من موضع، مقرونًا بقدسية الأرض المباركة، كما في قوله تعالى: «وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ»، فنال بذلك قداسة خاصة في الوجدان الإسلامي، باعتباره شجرة مباركة نبتت في أرض مباركة.
لم يكن زيتون الأقصى إرثًا بيئيًا فقط، بل إرثًا حضاريًا يحمل رسالة تواصل بين الأجيال. كما صلى الآباء في ظلاله، يقطف الأبناء ثماره اليوم، في مشهد يلخص العلاقة العميقة بين الإنسان والأرض والدين. فالزيتون شاهد على التاريخ، وعلى استمرارية الحياة في هذه الأرض المقدسة.
يرتبط الزيتون في الوعي الفلسطيني برمزية تجمع بين البركة والسلام من جهة، والصمود والثبات من جهة أخرى. أما زيتون المسجد الأقصى تحديدًا، فله مكانة مضاعفة، إذ تغدو جذوره امتدادًا لعلاقة الفلسطيني بأرضه ومقدساته، ورمزًا للثبات في وجه محاولات التغيير والتهويد المستمرة، وتذكيرًا دائمًا بأن للقدس جذورًا لا تُقتلع مهما اشتدت محاولات الطمس.
لم يكن زيتون الأقصى إرثًا بيئيًا فقط، بل إرثًا حضاريًا يحمل رسالة تواصل بين الأجيال. كما صلى الآباء في ظلاله، يقطف الأبناء ثماره اليوم، في مشهد يلخص العلاقة العميقة بين الإنسان والأرض والدين. فالزيتون شاهد على التاريخ، وعلى استمرارية الحياة في هذه الأرض المقدسة.
على مر السنين، تعرضت شجرة الزيتون لانتهاكات جسيمة، خصوصًا في الأراضي الزراعية الفلسطينية. ففي أغسطس عام 2021، اجتاحت الحرائق جبال القدس، لتكشف بعد إخمادها أطلال القرى الفلسطينية التي أُزيلت عام النكبة 1948، وقد استبدلت أسماؤها بأسماء مستعمرات إسرائيلية. بذلك كُشف زيف الادعاء الصهيوني بأن فلسطين كانت أرضًا قاحلة، إذ تُظهر المدرجات الزراعية القديمة التي تعود لأكثر من 400 عام مدى عمق الجذور الفلسطينية في هذه الأرض، ودور الزيتون في حفظ توازنها ومنع انجراف تربتها.
تاريخيًا، وخلال فترة الانتداب البريطاني، مارس المستعمرون سياسة منظمة لتدمير أشجار الزيتون، تمهيدًا لتغيير طبيعة الأرض. لاحقًا، واصل الاحتلال الإسرائيلي اقتلاع الفلسطيني من أرضه وهويته، فاستبدل أشجار الزيتون بالصنوبر، رغم أن الصنوبر لا يناسب مناخ فلسطين ولا طبيعة تربتها. كانت تلك أولى خطوات محو الهوية الزراعية الفلسطينية.
اقرأ أيضًا: تشرين ومواسم الزيتون: المرأة وسيط الذاكرة
لكن الفلسطيني لم يتخلّ عن زراعة الزيتون، فقد اعتبره جزءًا من إرثه الممتد. ويذكر الفنان التشكيلي ناصر سومي في كتابه «فلسطين وشجرة الزيتون: تاريخ من الشغف» أن تدجين شجر الزيتون في فلسطين بدأ منذ الألف الخامسة قبل الميلاد، لما تتمتع به البلاد من نور وخصوبة تناسب هذه الشجرة المقاومة للجفاف والبرد، حتى أصبحت فلسطين بحق "بيت شجرة الزيتون".
في عام 1945، امتلك اليهود نحو 700 هكتار من أراضي الزيتون، اقتلعوا معظمها وزرعوا مكانها الفول السوداني وعباد الشمس. وبعد النكبة، استمرت محاولات طمس الزيتون بزراعة الصنوبر، لتبدأ مرحلة أخرى من النيل من الأرض والشعب معًا. وفي عام 1950، صادرت سلطات الاحتلال ما يقارب 137 ألف دونم من أراضي الزيتون، وقطعت 30 ألف دونم منها، مستبدلة الأشجار بمزروعات أخرى.
وفي كلمات الشاعر محمود درويش في قصيدته "عن الصمود": "لو يتذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعًا". وهكذا، سيبقى الفلسطيني متجذرًا في أرضه، كما شجرة الزيتون التي وقفت شامخة في وجه كل محاولات اقتلاعها، حافظة للهوية، شاهدة على التاريخ، ومانحة للأمل في كل موسم جديد.
ورغم كل ذلك، بقيت شجرة الزيتون صامدة، إذ قدّر عدد المزارعين الذين واصلوا زراعتها بعد عام 1948 بنحو 73%، بإنتاج سنوي يقارب 7 آلاف طن من الزيت. وبحسب إحصاءات عام 2008، بلغ عدد الأشجار المقتلعة أكثر من مليون وستمئة ألف شجرة.
يمتد الزيتون اليوم على مساحة تتجاوز 575 ألف دونم من الأراضي الفلسطينية، وينتج في المواسم الجيدة نحو 33 ألف طن من الزيت، بينما يقل الإنتاج في المواسم الضعيفة إلى نحو 7 آلاف طن فقط.
ورغم القيود التي يفرضها الاحتلال، ومنعه المزارعين من الوصول إلى أراضيهم، تبقى مواسم الزيتون حاضرة في الوجدان الفلسطيني. فالعائلات تتهيأ معًا لقطف الثمار، متحدية سرقة المحاصيل وإحراق الأراضي واقتلاع الأشجار، لأن الزيتون ليس مجرد موسم، بل طقس من الهوية والصمود يستحق المخاطرة من أجله.
وفي كلمات الشاعر محمود درويش في قصيدته "عن الصمود": "لو يتذكر الزيتون غارسه لصار الزيت دمعًا". وهكذا، سيبقى الفلسطيني متجذرًا في أرضه، كما شجرة الزيتون التي وقفت شامخة في وجه كل محاولات اقتلاعها، حافظة للهوية، شاهدة على التاريخ، ومانحة للأمل في كل موسم جديد.

