بنفسج

حكايات تشرين: عن خير البلاد ومواسم الزيتون

الإثنين 08 يونيو


كلما يبدأ الجو يميل إلى اللطافة، ويبدأ التقويم يشير إلى قرب الخريف، تداعب خاطري ذكرياتي الأولى، والتي عاصرت فيها موسم نضج ثمار الزيتون، ذكريات لا تخلو من رائحة الزيتون الزكية التي تربيت على حبها، وكبرت قربها، والتي ربما تختلط برائحة شاي مصنوع على النار، بنكهة "دقة العدس" التي كنا نجدها نابتة على أطراف الصخور قرب الأشجار التي نجمع ثمارها، أو برائحة طليعة المطر في تلك المواسم، والتي كنّا نفرح بها وكأننا نعايشها لأول مرة في كل مرة.

كان الموسم يبدأ برحلات متقطعة قبيل بدء القطف، نتفقد خلالها الأشجار، ونتخلص مما نجده حولها من أعشاب يابسة، نقطف بعض حبات الزيتون لنصنع منها "رصيص" الزيتون، نجمع ما سقط تحت الأشجار من ثمار ناضجة في عملية يسميها الفلاحون "الجول" حيث يتجولون بين أشجارهم ليلتقطوا عن الأرض الثمار التي سقطت بسبب نضجها، وربما صنعوا منها "زيت الطفاح" باستخدام درّاسة بدائية منزلية، لينعموا بأول خير الموسم، و يتذوقوا الزيت الجديد، كنت أرافق جدي الذي كان يوزع الأعمال بيننا حتى ننتهي بسرعة و نعود إلى المنزل، لننتظر أول يوم من القطاف ببالغ الصبر.

 | رائحة الزيتون

نتفقد الزيتونة الأولى، نجمع الثمار الساقطة، ثم نمد المفارش "المالطية" حولها، وهي مفارش قماشية سميكة متينة، ونغطي كامل المساحة تحتها، ثم نبدأ القطف.
 
يجتمع أفراد العائلة جميعًا على زيتونة واحدة حتى تنتهي، ثم ما إن ننجز بعض العمل و تبدأ خيوط الشمس تنتشر في المكان نجلس لاستراحة الفطور الذي كان ألذّ ألف مرة من نفسه لو قمنا بتناوله في المنزل، ثم كنا نعود إلى العمل بنشاط وهمة

كنت عندما أستيقظ لصلاة الفجر أسمع صوت صفارة قدر الضغط في المطبخ، وجبة الغداء على وشك أن تكون جاهزة قبل الانطلاق، الكثير من العلب التي تحتوي أصناف مختلفة من حواضر المنزل مرتبة في سلة كبيرة، خبز، والكثير من قوارير الماء، بعضها مثلج للشرب خلال النهار، وبعضها لغسل اليدين، العربة التي يجرها حمار جدي محملة بالكثير من الأدوات التي أعرف أسماء بعضها، مفارش لجمع ثمار الزيتون، أكياس كبيرة "شوالات" لنقل المحصول، منشار ومقص للأغصان، سلم طويل وآخر قصير.

كان بعض الصغار يصعدون في العربة مع جدي، بينما يسير البقية نحو الحقل سيرًا على الأقدام، و لما تشق خيوط الشمس طريقها إلى وجوهنا بعد، كان مسيرنا نشيطًا سعيدًا، كيف لا، ونحن نستنشق نسيم الصباح العليل المندّى، و نتلقف رائحة الزيتون الناضج حولنا، كنا نسير قصر طريقنا أو طال، حتى نصل فنباشر العمل فورًا دون إبطاء.

نتفقد الزيتونة الأولى، نجمع الثمار الساقطة، ثم نمد المفارش "المالطية" حولها، وهي مفارش قماشية سميكة متينة، ونغطي كامل المساحة تحتها، ثم نبدأ القطف. يجتمع أفراد العائلة جميعًا على زيتونة واحدة حتى تنتهي، ثم ما إن ننجز بعض العمل و تبدأ خيوط الشمس تنتشر في المكان نجلس لاستراحة الفطور الذي كان ألذّ ألف مرة من نفسه لو قمنا بتناوله في المنزل، ثم كنا نعود إلى العمل بنشاط وهمة، تهب النسائم العليلة حينًا، وترتفع حرارة الشمس أحيانًا أخرى، نقضي الوقت في السمر والحديث عن الذكريات، وربما يبدأ أحدهم بالغناء، لتطرب آذاننا بالاستماع إليه، وكنا إذ ذاك، نسمع أصوات العائلات المجاورة ولا نراهم من كثافة حقول الزيتون التي تفصل بيننا، فنسمع السمر والضحك والنداء، ونسمع أصوات الآليات الزراعية التي تجول المنطقة جيئة وذهابًا.

كان جدي رحمه الله ينعم في عزّ قوته، و كان يدير الأمر كله ويوزع المهام علينا كما جرت عادته، وكنّا نتوقع توبيخه في كل وقت إذا تراخى أحدنا أو حاول التنصل من عمله، كنّا ننهي العمل عند الغروب، إذ نجمع ما قطفنا ونحمله على ذات العربة ونعود مشيًا على الأقدام نحو المنزل، منهكين بتعب لذيذ توّجه إنجاز كبير، كانت رائحة الزيتون تعلق بثيابنا وأيدينا، وكنّا نعود لنستحمّ ونتحضر لليوم التالي، قبل أن نلقي بوجوهنا على وسائدنا ونستغرق في النوم من اللحظة الأولى، كان ذلك الموسم يزرع فينا أواصر المودة ويزيد من ترابط العائلة و تقاربها، وكان يمنحنا زيت زيتونٍ طيّبًا من عرق جبيننا، والكثير من العافية.

رحل جدي إلى جوار ربه، ورحلت كثيرٌ من العادات التي اعتدناها في موسم قطف الزيتون، وقُسّمت الأرض بين الإخوة، وتم اختصار الكثير من الخطوات التي كان جدي يعتبرها مسلمات، فلم نعد نتفقد حقولنا قبل البدء بأيام، ولم نعد نجمع حبات الزيتون المتساقطة قبل القطف، و لم يعد لدينا وقت لنبعد الحشائش اليابسة التي نجدها تحت أشجار الزيتون، وصرنا نعود من عملنا لنلتحق بحقولنا ساعتين أو ثلاث يوميًا فقط، في جوٍّ يملؤه الكسل و التسويف، وربما لم نحضر معنا وجبة لتناولها في الهواء الطلق، بل لم نحضر إبريق شاي لنصنعه مع "دقة العدس" التي نجدها.

 لم نعد نذهب مشيًا على الأقدام، بل صرنا نصل بالسيارة حتى منتصف الحقل، ولم نعد نحمل الكثير من الأدوات التي نحتاج إليها، لكننا ما زلنا نحتفظ بالموسم بصعوبة، ولا زال الموسم مثيرًا للذكريات و الأشجان، وما زلنا نجمع ثمار الزيتون لنحصل على مؤونة الزيت لمنازلنا التي لا تعمر إلا به، وما زلنا نحاول الاستمتاع بالأجواء اللطيفة، وبرائحة الزيتون الزكية، وباجتماعٍ عائلي مصغر، وما زال الزيتون وسيبقى ذلك التراث العريق البالغ العمق في تاريخنا، والذي علينا أن نزرعه في قلوب أبنائنا من بعدنا.