بنفسج

ناجي العلي: ريشة تؤرخ للمرأة الفلسطينية واقعا وهوية

الأحد 07 يونيو

لا تزال الدمعة تذرف من جفن فاطمة على الوطن وأحواله المتردية لكنها رغم الشدائد صامدة صابرة تربي أطفالها على حب فلسطين". ناجي العليّ[1]

ظهرت المرأة في رسومات ناجي العليّ بصور وملامح متعددة؛ اختلفت باختلاف دلالاتها ورمزياتها في السياقات المختلفة، كان النصيب الأوفر منها لفاطمة التي شكلت نموذجًا يؤرخ للمرأة الفلسطينية واقعًا وهوية، في الحين الذي ارتبط حضور المرأة الحسناء في هذه الرسومات بحضور الوطن في مخيلة العليّ، ورمزت المرأة المتشحة بالسواد على نساء العالم العربيّ كنساء مصر والعراق. من جهة أخرى، دللت المرأة المكتنزة -ذات الجسد الممتلئ- والشكل القبيح على "إسرائيل".

يحاول هذا التقرير سبر غور ما سطّرته ريشة ناجيّ العليّ حول المرأة بشكل عام والفلسطينية منها بشكل خاص، والكيفية التي استطاع بها العليّ خلق صورة حيّة عن المرأة الفلسطينية عبر هذه الرسومات، فبها يتوقف الزمن ليستبدل الماضي بالحاضر ويشتبك بالمستقبل، ومن خلالها نستقرئ ذات المرأة الفلسطينية، ونستنطق أدوراها، ونرصد وظائفها في المراحل التاريخية المختلفة.

في التأريخ للمرأة الفلسطينية

فاطمة 1.jpg
فاطمة؛ المرأة الفلسطينية التي عبّرت عن وجدان العلي... فالحل واضح وإن كان مكلفا كما ترى فاطمة !

شكّلت شخصية فاطمة بالتوازي مع شخصية زوجها الرجل الطيب أبو حسين، الشخصيتان الأبرز في رسومات ناجي العليّ بعد شخصيته الأولى حنظلة، نجح من خلالها في نقل صورة واقعية حيّة عن المرأة الفلسطينية؛ صورة مركبة بتركيب الواقع الفلسطينيّ تتداخل فيها الجوانب الاجتماعية والسياسية ولاقتصادية والإنسانية، وهو إذ يؤرخ للمرأة الفلسطينية بفاطمة فهو يشير إلى الحالة العامة والصفات المشتركة التي كانت عليها غالبية النساء في ذلك الوقت.

ظاهريًا بدت فاطمة ذات قوام متناسق، بلباس شعبي يليق باسمها الذي اختار لها؛ فترتدي إزارها الطويل ورداءها الأبيض وتضعه على رأسها بصورة عشوائية مظهرًا خصيلات من شعرها. لا تنتمي فاطمة للطبقة المثقفة، وهي ربما لا تجيد قراءة الصحف كما يحسن زوجها؛ غير أنها تجيد قراءة أحداث الواقع وتوجه زوجها للقرار الصحيح في أشد الظروف حلكة، فتحضر فاطمة البندقية حين يتساءل زوجها قائلًا "إذا كانت الأنظمة لا بترحم ولا بتخلي رحمة ربنا تنزل فما هو الحل؟".

حمل كاريكاتور العليّ حالة الوعي المبكر الذي تميزت به الفلسطينية، ففاطمة تحث زوجها على النهوض والاعتماد على الذات الفلسطينية لتحرير الوطن، وعدم التعويل على الأنظمة العربية؛ تناول زوجها البارود بيدٍ وتحمل طفلها بيدها الأخرى، ترافقه حيث المعركة لتمسح آثار المدفع وتزرع مكانها خصبًا، الحريصة على غرس فلسطين في نفوس أبنائها فتقص القصص لأبنائها قائلةً: "ما بيحلى الكلام إلا بذكر المصطفى عليه السلام وذكر فلسطين... كان يا مكان كان في هون ...".

في فاطمة جسّد العلي صورة الإنسان الثائر العنيد صاحب الرؤية الواضحة، تتمسك بالأرض، ثابتةً على حب فلسطين، تملك قاموسًا في لغة المفاوضات والتنازلات من كلمة واحدة فقط "فشروا". فاطمة الفلسطينية هي شريكة المواقف والحوار، لا تقتصر أدوارها عند إنجاب الجيوش، بل تتعداها إلى التعبئة والتحريض ورمي الحجار وحمل السلاح.

إلى جانب فاطمة ظهرت سندريلا، ذات الأيد الصغيرة والقلب الجسور، الحافظة لعهد اللاءات الثلاث، فتخط بيدها: لا صلح لا تفاوض لا اعتراف، وهي التي فقدت إحدى ساقيها في العدوان الإسرائيلي على لبنان، وظهرت العمة حنيفة -المحببة إلى قلب العليّ- بملابسها البسيطة الدالة على ما آلت إليه حالتها، رمزت إلى الأرض والحب والحنان، يقول عنها ناجي: "العمة حنيفة، إنسانة حميمة لأنها رمز انتمائي إلى قريتي، إنها جزء من تكويني النفسي. هي الحكم، حكمة الحزن الصادر في أعماق المرأة المقهورة، وهي فرح الأغنية الريفية هي في رسوماتي... تلك المرأة الطيبة القوية المعبرة عن هم إنساني شامل".[2]

في التعبير عن وجدان العليّ

ناجي.jpg
المرأة عند العليّ هي القضية باختصار، إنها الوطن المسلوب والطبقة الكادحة والشعب المُشرّد 

يلحظ المتتبع لشخصية المرأة في رسومات ناجي العليّ قربها لنفسه ورسالته، حتى وكأنها تقمصته؛ فأضحت أناه ووجدانه، فبينما يلتزم شخصه الأول حنظلة الصمت مديرًا ظهره ومكبلًا يداه، نجده يبوح بعصارة نفسه ويصيغ أفكاره وقناعاته على لسان فاطمة، وبعينيها ينقل أحاسيسه بكثافة، وبملامحها يرسم نكاته السوداء - كما يسميها- فيجعل الناس يضحكون بمرارة الذي يعرف الشيء ويزعم أنه لا يعرفه.

كان العليّ شديد الصدق مع نفسه، شديد الصراحة في قراءة واقعه؛ ولذا كان يجد نفسه في براءة وعفوية فاطمة التي لم تدنس السياسية طهرها الأول. لجأ العليّ للمرأة للتعبير عن شعوره ووجدانه، عن حزنه الطويل الذي رافقه في كل مراحل حياته؛ فالحزن كما يقول: "ظاهرة إنسانية نبيلة بل هي أنبل من الفرح، فالإنسان يستطيع افتعال الفرح، أما الحزن فلا."[3]

إنّ المرأة عند العليّ هي القضية باختصار، فاطمة هي قضية الوطن المسلوب، الفلسطينية اللاجئة التي ما زالت تحمل مفتاح بيتها في يافا، وهي التي تخبز على الصاج مطعمة النار ورق الجرائد المليء بشعارات كدور النفط وإعلان الجهاد.

يلحظ المتتبع لشخصية المرأة في رسومات ناجي العليّ قربها لنفسه ورسالته، حتى وكأنها تقمصته؛ فأضحت أناه ووجدانه، فبينما يلتزم شخصه الأول حنظلة الصمت مديرًا ظهره ومكبلًا يداه، نجده يبوح بعصارة نفسه ويصيغ أفكاره وقناعاته على لسان فاطمة.

كان ناجي يميل إلى الفقراء، وإلى الطبقة الضعيفة، ويحاول لفت الأنظار إلى الطبقة المسحوقة التي كان يعبر عنها أيضًا بالمرأة. فاطمة التي تموت واقفةً كعليّها، تُقتل وهي تحارب من أجل رغيف الخبز لأبنائها.

| في حضور الوطن

ج
الوطن في مخيال العليّ، امرأة حسناء بشعر طويل أسود..هي أناه الناطقة وأحساسه الذي تظهره عيناها

المرأة هي الوطن؛ كما صورها ناجيّ العليّ. فقد ارتبطت صورة الوطن في رسوماته بالمرأة الجميلة ذات الشعر الطويل المسدول، فكانت بأبهى حلة، يتغنى بها الرجال، تستقبلهم بالشوق، ويهدونها الورد. عبّرت المرأة عن كل حلم جميل أراده العليّ واقعًا، فهي الأمل بالوحدة العربية والتوافق الدينيّ، هي الشوق إلى التحرير ووصال الوطن، هي فلسطين ولبنان ومصر الرافضة لرجالات كامب ديفيد، هي مخيم عين الحلوة ومخيم صبرا، وهي بنت الجنوب التيّ تروي ظمأ المقاتلين من نهر الليطانيّ.

المرأة هي وسيلة ناجيّ العليّ للتعبير عن رؤيته الخاصة حول الوطن، والتي عبّر عنها ثائر وشحة في دراسته: دارسة سيكولوجية في كاريكاتور ناجيّ العليّ: " تبدأ بحب الوطن فلسطين، ومن ثم التأكيد على أنّ ما يقصده بالوطن هو كامل التراب الوطني الفلسطيني في الوقت الذي كانت تظهر فيه ترحيبات بالحلول السلمية التي كانت تطرح، ومن ثم يؤكد على أنّ حب الوطن وتحرير كامل التراب الوطني لا يأتي إلا بالرصاص الذي يعبر هنا عن لغة القوة والعنف الثوري في مواجهة المحتل والتحرير"[4].

 

عرّج ناجيّ العلي أيضًا إلى نساء الوطن العربيّ اللواتي اتشحن بالسواد في رسوماته، فأشار إلى ثكالى البصرة والعراق اللواتي فقدن أبناءهن في الحروب، وإلى نساء مصر أخوات فاطمة في العروبة.

 

| المرأة الخصم

خصم.jpg
قد تٌعبّر المرأة عن العدو " إسرائيل" أو الأنظمة العربية المتآمرة، ولكنها امرأة مقززة بشعة، عارية أحيانا 

فضلًا عن هذه الصورة المشرقة للمرأة في رسومات العليّ، فقد طالت ريشة العليّ أيضًا صورًا لنساء بشعات، "فإسرائيل" عنده هي المرأة المقززة النتنه، العارية أحيانًا كناية عن دورها في الإغراء والتضليل والغواية، كما ظهرت نسوة أخريات في فن ناجي العلي بشكل ثانوي بصورة بعيدة عن الصلابة كأم عبد الكادر- أم عبدالقادر- المتكرشة البرجوازية، كنقيض لفاطمة والعمة حنيفة، فهي تعيش حياة رغدة، ويدرس أبناؤها في جامعات أمريكا وأوروبا، وتظهر غير مكترثة بالوطن تسعى للثراء وجمع المال؛ فهي تحتفل بالمناسبات الوطنية بدعوة جاراتها لتناول "المناقيش".

 


[1] ناجي العلي، ناجي العلي مات واقفًا، نابلس: دار الحلم الفلسطيني: 2005.

[2] فؤاد معمر، الشهيد ناجي العلي، الإمارات، مكتبة الجامعة، 2012.

[3] فؤاد معمر، مصدر سابق.