“فديتك روحي يا روح الفؤاد، وقلبي ينادي: أي مهجتي”.. ما زال صوته حاضرًا في مخيلتها، تسمع صداه ليلًا رغم أزيز الطائرات وضجيج الغارات، بينما يلوح وجهه وهو يغني لها بصوته الندي. طوال أيام فقده، قبل أن يتأكد خبر استشهاده، كانت تُمنّي نفسها بلقاء يبدّد شوقها، ويطفئ حزن القلب، حتى وصلها الخبر اليقين: “عز الدين” استُشهد.
نحاور سجى، زوجة الشهيد عز الدين النمنم، الذي رحل تاركًا لها طفلتين تحملان من روحه الكثير، لتخبرنا ماذا يعني أن تكوني زوجة رجل مفقود؛ يتملكك الأمل حتى تصبحي مريضة به، ثم تنهدم الدنيا فوقك عند لحظة تأكد الرحيل.
صاحب الصوت الندي شهيدًا

في 7 نوفمبر 2024، وصل اتصال إلى عائلتها التي تعيش برفقتهم منذ يوم غياب زوجها عز الدين، يحمل الخبر الأشد قسوة على الإطلاق. تقول سجى لبنفسج بصوت منهك: “اتصل بي أخ زوجي وطلب مني أن أعطي الهاتف لأحد من العائلة، لم أجادل، وفعلت ما طلب. ثم سمعت أمي تقول: هي تعلم أصلًا أنه شهيد ولن يعود. نعم، كنت أعلم أنه من المفقودين، لكنني كنت أرجو أن تحدث المعجزة ويعود حيًا يُرزق”.
“أحتاج لعز في كل لحظة من حياتي، وأقسى لحظاتي حين ننزح من مكان إلى آخر، وحين يقترب الخطر منا فنكون بين الموت المحقق. شعور قلة الحيلة خانق، ولو كان موجودًا لكانت الدنيا أخف”.
منذ ذلك اليوم، انقلبت حياة سجى، وازداد ثِقل الحمل عليها؛ فبين يديها طفلة لا تتجاوز العشرة أشهر، وأخرى أكبر تُدعى “شام”. قبل الفراق، كان يوصي شام بأن تكون السند لوالدتها وشقيقتها، وأن تكون الابنة التقية الحنونة، وأنهى حديثه قائلًا: “بحبكم كتير يا كل حياتي”.
تضيف سجى: “أحتاج لعز في كل لحظة من حياتي، وأقسى لحظاتي حين ننزح من مكان إلى آخر، وحين يقترب الخطر منا فنكون بين الموت المحقق. شعور قلة الحيلة خانق، ولو كان موجودًا لكانت الدنيا أخف”.
“وين بابا؟”

منذ أن خرج ولم يعد، وصُنِّف في عداد المفقودين، ذاب قلبها كمدًا بالانتظار. عاشت على أمل اللقاء، لكن الغياب لم يطل. تقول سجى بصوت باكٍ:
“لا أستطيع التأقلم مع غيابه، ما زلت أتعامل وكأنه سيعود قريبًا، ولكن الواقع قاسٍ جدًا، لا يسمح لي حتى بالحزن. أعيش في مطحنة الحياة، بين نزوح وموت”.
لدى عز الدين ابنتان؛ الكبرى “شام”، والثانية لم تعايشه بعد ولا تحفظ ملامح وجهه. أي شخص تراه تناديه: “بابا”. سيكبرن الفتاتان ولن تنتهي الأسئلة، وسيبقى شعور اليُتم مرًّا كالعلقم، عالقًا فيهن حتى الرمق الأخير، ولن يلتئم جرح الفقد أبدًا. الآن، عند سؤال “وين بابا؟” تجيب سجى: “بابا بالجنة.. ادعوله”.
كان لعز الدين أمنية أخيرة في الحرب: أن يجتمع بعائلته في لقاء مسائيًا هادئًا. وقبل استشهاده بأيام قال لسجى: “يا مرتي، أنا تعبت كتير.. يا بصير أسير يا بستشهد. ديري بالك على حالك والبنات، أمانة ربيهم على التقوى والإيمان.. وضلك متذكرة إني بحبكم كتير”.
رحل عز الدين كما توقّع، لكنه ترك سيرة طيبة على الأرض، إرثًا لبناته، وصوتًا نديًا كلما ضاقت بهن الدنيا فتحن تسجيلاته الصوتية، ليبكين مرارة الفراق.

