بنفسج

فن العمارة في استقراء التاريخ: قصر السيدة طنشق المظفرية في القدس

الخميس 23 سبتمبر

لم تذكر كتب التاريخ الكثير عن "الست طنشق"، سوى أنها عاشت في أواخر القرن الثامن وتوفيت في العام الأخير من ذات القرن، وتُعرف أيضًا ببنت عبدالله، دون أن يعني هذا أن اسم أباها هو عبدالله بالضرورة؛ فقد دأبت عادة المماليك بأن يطلقوا اسم "ابن عبدالله " أو "بنت عبدالله" عندما يكون الأب شخصًا لا شأن له، وكلمة "طنشق" تعني باللغة التركية الثمين أو الرائع، ويبدو أن طنشق كانت زوجة أحد الأمراء لقب بالمظفر، فنسبت إليه.

حكمت أسرة المظفرين المملوكية في فارس وكرمان وكردستان (713/1313-795/1393)، ويبدو أن طنشق لجأت إلى مدينة القدس إثر النكبة التي ألمت بالأسرة الحاكمة على يد تيمورلنك في 789هـ -1387م، وتفرغت للتعبد في مدينة القدس، فأنشت العديد من المنشآت، من أهمها "دار الست" أو "الدار الكبرى". قال عنها مجير الدين الحنبلي في الجزء الثاني من الأنس الجليل: " كانت في عصر الشيخ إبراهيم القلندري الست طنشق بنت عبد الله المظفرية التي عمرت الدار الكبرى المعروفة بدار الست بالعقبة التي بالقرب من باب الناظرة. توفيت بالقدس الشريف ودفنت بتربتها".

| وصف السرايا

غ11.png
أحد أبواب القصر الداخلية المطلة على الساحة الأمامية للقصر. تصوير حسنة بسيط

تم إنشاء ووقف هذا المعلم في الفترة (783-781هـ /1382-1379م ) في القدس، في موقع يشرف على المسجد الأقصى ويطل بشكل خاص على قبة الصخرة. يمكنكم الوصول إلى هذا المعلم عن طريق الواد بالانعطاف غربًا عند مفرق طريق باب الناظر المؤدي للمسجد الأقصى، أو عن طريق خان الزيت بالانعطاف شرقًا عند مفرق طريق عقبة التكية، وبعد السير عشرات الأمتار تقريبًا ستجدون واجهة القصر أمامكم. أحد أبواب القصر الداخلية المطلة على الساحة الأمامية للقصر.

 

غ7.png
صور من جوانب السرايا بعد الترميم العثماني والمعاصر لها وتحويلها لمركز لدار الإيتام الصناعية .تصوير حسنة بسيط

يعد هذا القصر مجمعًا معماريًا ضخمًا يتكون بناؤه من طابقين، يضم الأول صالة استقبال كبيرة تتكون من قاعة مركزية وإيوانين، ويحيط بهذه القاعة من الجنوب والشرق والغرب مجموعة من الغرف. يتصل الطابقان ببعضهما بمدخل كبير الحجم والتكوين، معقود مدبب يؤدي إلى ساحة مكشوفة يتم الوصول من خلالها إلى مختلف الغرف والقاعات في الطابقين.

في مدخل القصر يوجد أكبر وأضخم واجهات العمائر في بيت المقدس، ففيها ثلاث مداخل فخمة: غربي وأوسط وشرقي، استخدم في المدخل الغربيّ حجارة ملونة تعرف باسم "الأبلق" (الأحمر والرمادي)، ويدور شريط كتابي حول صدر حنية المدخل محاط بالإطار الزخرفي للنافذة، ومضمون هذا الشريط الذي حفر بخط النسخ المملوكي البارز "البسملة يليها اقتباس قرآني للآيات 46-55 من سورة الحجر". ثم المدخل الأوسط وهو أوسط المداخل الثلاثة إلا أنه أكثرهم اتساعًا متوج بعقد خماسي؛ فالباب موصول بالقاعة الرئيسة، ويؤدي المدخل الأوسط لقصر الست طنشق، إلى قاعة رئيسة، تستخدم اليوم ورشة للنجارة ويبدو أن وظيفتها الأصلية كانت إسطبلًا.

غ8.png
قبة السرايا تتوسط سطح القصر . تصوير حسنة بسيط

ويأتي الباب الشرقي في الواجهة الشمالية للقصر، وهو أضخم وأجمل الأبواب الثلاثة، بُني بالأبلق من حجارة حمراء وبيضاء مالت قليلًا للإصفرار، وفوق عتبت الباب الأحمر مدماك حجري من صنج معشقة بشرفات موضوعة بتبادل معكوس بأسلوب الأبلق، وأصل هذا التعشيق مكون من حجارة بيضاء جيرية لُبّست بحجارة سوداء، تحولت بفضل العوامل الجوية إلى رمادية.

| الرمزية التاريخية للقصر

غ10.png
باب السرايا الرئيسي يعلوه لوحة كتب عليها دار الايتام الاسلامية الصناعية وهو مازال قائم لليوم .تصوير حسنة بسيط

بعد وفاة الست طنشق، تم استخدم القصر كمقر لمتصرفية القدس في العهد العثماني، وتم ضم تكية "خاصكي سلطان" له، وتعني "خاصكي سلطان" محبوبة السلطان، وهو لقب أطلق على رسلانة زوجة سليمان القانوني وهي روسية الأصل. وكان سرايا طنشق يعرف وقتئذ باسم دار السرايا، أما في فترة الاحتلال البريطاني لفلسطين فقد حولها المجلس الإسلامي الأعلى إلى " دار الايتام الإسلامية الصناعية " و التي ما تزال قائمة حتى يومنا هذا، حيث تقوم المدرسة بتعليم وتشغيل الأيتام، وهي الآن تابعة لدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس، فتتولى الأوقاف الإشراف عليها ورعايتها، وتسعى إلى وضع الخطط التنموية لتطويرها بالشكل الذي يجعلها قادرة على النهوض برسالتها التعليمية والمهنية؛ حيث تشتمل هذه الدار على أنواع متعددة من التعليم المهنيّ مجالات الطباعة، والتجليد والدهان والنجارة والخياطة والخيزران، والتنجيد والديكور والخراطة، والتسوية والحدادة واللحام، والرسم المعماري والكهرباء .

 

غ9.png
صور لطلاب دار الأيتام الصناعية خلال تدريبهم للقيام بالمهام المهنية والطباعة

تتميز هذه الدار بفرقتها الموسيقية الفريدة التي تشتمل على مجموعتين أساسيتين: الأولى، تعزف بطرق الصنج النحاسية، والثانية، تعزف بنفخ القرب. وقد وجدت هذه الفرقة رعاية وتشجيعًا كبيرين من وزراء وزارة الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطينية المتعاقبين. وتخرّج فيها العديد من الأكفاء الذين تولوا قيادة فرق موسيقية في دول عربية شقيقة.

وتحفل الذاكرة الفلسطينية بطيب مشاركاتها في المناسبات الوطنية والأعياد الدينية، خاصة في شوارع القدس العتيقة وساحاتها العامة واليوم، يحتاج هذا القصر إلى الكثير من الترميم والصيانة والاهتمام بحجارته وخاصة واجهته الرئيسية والداخلية المتآكلة، كما أن بعض العناصر الزخرفية حول الشباك مفقودة، ويتوجب إعادة ما فقد منها وإعادة ترميم الرقم التاريخي المنقوش عليها، حيت تكمن أهمية الاعتناء بالمبنى وترميمه لأهميته التاريخية، والحفاظ على موروث معماري تاريخي أصيل.


| مصادر ومراجع 

[1] الحنبلي ، مجير الدين ، الإنس الجليل في تاريخ القدس والخليل ، ج2 ، عمان ، مكتبة دنديس ، 1999م .

[2]  نجم ، رائف يوسف وآخرون، كنوز القدس، عمان ، المجمع الملكي لبحوث الحضارة الاسلامية ، 1983م .

[3] العسلي ، كامل ، من آثارنا في بيت المقدس ، عمان ، جمعية عمال المطابع التعاونية ، 1982.