بنفسج

ومضات نسائية: في الملهاة الفلسطينية

السبت 13 يونيو

"نحن بحاجة لأن نقول لأنفسنا قبل سوانا؛ إننا لم نزل جميلين، رغم كل سنوات الموت التي عشناها تحت الاحتلال. بصراحة؛ جمال كهذا، ولو كان رمزيًا، يجعل الإنسان يحس أنه فوق الاحتلال لا تحته".                                                

كانت تلك بداية الكاتب الفلسطيني إبراهيم نصر الله لروايته "تحت شمس الضحى"،  التي ختم بها ملهاته الفلسطينية [1] ؛ من قناديل ملك الجليل حتى شمس الضحى.  خمس روايات تحكي تاريخ فلسطين منذ خضوعها للحكم العثماني وانتهائه، مرورًا بالاحتلال الإنجليزي، ثم المحنة الكبرى المتمثلة بالاحتلال "الإسرائيلي".  ملهاة ملؤها الوجع والأمل، الخيبات والمقاومة والصمود، الحياة والموت، أو الرغبة في الحياة والتباري في مواجهة الموت والاحتفاء به.

| نجمة: قدنيل الجليل المضيء

لعبت نجمة دور البطولة في رواية قناديل ملك الجليل، وجسّد فيها نصر الله صورة للأم الفلسطينية، الذكية والحكيمة والشجاعة. فهي مفتاح ظافر - ابنها- الدائم إلى روحه الحقيقية.
 
يحكي نصر الله أيضاً عن " الجدائل" التي تُهدى للحاكم، وهو نموذج تاريخي متناقل منذ عصر النبوة، ويحمل رمزية قيّمة عالية في الوجدان العربي والمسلم.

تجسد روايات نصر الله الماضي والحاضر، ترى فلسطين في الزمن الأول جميلة هادئة ودافئة، تشتم رائحة برتقالها وترى أشجار زيتونها،  وتزهر أمامك أشجار اللوز فيها.  تجلس على شاطئ بحيرة طبرية، وتبحر في مياه عكا التي لا تخشى البحر ، "لو كانت عكا تخشى من البحر لما جلست على الشاطئ".

تشعر بالأرض عميقا، ويخفق قلبك مع دقة فرح أو فزع لأجدادنا الأوائل. ثم –بعد كل هذا- ترى فلسطين بحاضرها اليوم، مفقودة غائبة؛ تحجبها عنا أسوار وحدود ومعابر وأسلاك شائكة، وكمائن ولجان تفتيش وجنود يرطنون بلغة ليست لهم، يا ويلي أيسرقون اللغة أيضا؟!

وكما تبهرنا المرأة الفلسطينية في الواقع بصمودها وشجاعتها، تفعل في روايات نصر الله الأمر ذاته،  فنجمة سيدة رواية " قناديل ملك الجليل"، التي ربّت البطل الثائر ظاهر العُمر الزيداني، تربينا معه برأيي. حين تأخذه إلى شاطئ بحيرة طبرية، ليخلع نعليه ويلامس تراب الأرض، فليس هناك ما يعيد إليه روحه سوى تشبثه بها. تحدث الأم ابنها قائلة: "في كل لحظة أحسست فيها أن التراب لا يلمس قدمي كنت أبدأ في التأرجح وأكاد أسقط".

وتظل نجمة أكثر من يؤمن بظاهر، فحين يتسلم طبرية، تؤمن أنه سيكون حاكمًا للجليل ذات يوم وتتحقق نبوءتها كما يتحقق حدسها، وتظل نجمة مفتاح ظافر الدائم إلى حقيقة روحه، وهي الوحيدة القادرة على استعادة حماسه وتهيئته ليكمل النضال، وهي الوحيدة التي تفديه إن حان وقت الفداء.

مع مرور الزمن تصبح الجديلة جدائل؛ جدائلها هي وبناتها وحفيداتها، تصله الجدائل  كمباركات على الانتصار تارة وكتعزية على النكبات تارة أخرى، وحين يرجوها ألا تفعل،  تخبره إحدى حفيداتها أن ذلك يشعرهن أنهن أجمل!

فحين أطبق سليمان باشا حصاره على طبرية لم ير ظاهر من هو أكثر ذكاء وحكمة من أمه نجمة ليرسلها للتفاوض معه، وأرسل معها حصانًا جميلًا كهدية. وحين طلب منها سليمان باشا أن تخرج ومن معها معلقين مناديلهم البيضاء برقابهم، أجابته بحزم: "هذا ليس طلبًا يا باشا، هذا أمر، فجنابكم لم ينتصر ونحن لم ننهزم". وحين رفض الباشا طلبها رجعت إليه فيما بعد بحصان اختارته كهدية ولكنه –هذه المرة- هزيل ضعيف شاحب، في إهانة للوزير الذي لم يعد يملك سوى التسليم.

يحكي أيضًا في قناديل ملك الجليل، عن تلك المرأة التي أنقذها ظاهر ذات مرة من الاغتصاب، وبسببها رحل عن طبرية متخليًا عن وظيفته الرسمية كمتسلم للقرية. فتدوام تلك المرأة على إهداء جدائلها له، كعرفان بالجميل. ومع مرور الزمن تصبح الجديلة جدائل؛ جدائلها هي وبناتها وحفيداتها، تصله الجدائل  كمباركات على الانتصار تارة وكتعزية على النكبات تارة أخرى، وحين يرجوها ألا تفعل،  تخبره إحدى حفيداتها أن ذلك يشعرهن أنهن أجمل!

| أنثى الحصان: قصة من زمن الخيول البيضاء 

في رواية زمن الخيول البيضاء تظهر صورة أخرى للمرأة، وهي الشريك الفعلي للحياة، بعيداً عن الصورة النمطية لتقسيم العمل الاجتماعي، فالمرأة للبيت والرجل للعمل خارجه.
 
وهو ما كانت عليه المرأة الريفية الفلسطينية، إذ كانت تفلح وتحصد وتًحّطِب، وتلد أحيانا في الحصيدة! كما برزت رمزية أخرى للأنثى التي تمثلت في المهرة -أنثى الحصان- وتعلق خيالها بها، لتكون السبب في بداية ثورته. 

أما في ملحمته "زمن الخيول البيضاء"،  تلعب الأنثى دور البطولة ولكن هذه المرة من خلال أنثى الحصان، فالمهرة "الحمامة" رائعة الحُسن، هي التي تخطف قلب خالد بطل الرواية، لدرجة تقبيل حوافرها. والتي يؤدي اختطافها إلى بداية ثورة خالد وقريته "الهادية" ضد المستعمر الإنجليزي، وتظهر المرأة -في هذه الرواية- رفيقة للرجل في الحقل وحب الأرض، والصمود والبسالة، فترسل زوجها وولدها إلى الجهاد ضد المستعمر، وترجوه أن يعود منتصرًا أو شهيدًا؛ فالفلسطينية لا ترتضي بنقاط المنتصف.

يسرد نصر الله مشهدًا بين أم، وولدها الذي فرّ من جبهة القتال:

  • "- ما الذي  تفعله يا أمين يا اللي بتقول إنك ابني؟
  • - خلاص تعبت وهذه هي البارودة، ليأخذها أي شخص يستطيع الاستفادة منها أكثر.
  • - وهل تعتقد أن حيلة كهذه ستمر علي، أنت جاسوس لا بد، ولم تحضر البندقية التي تتحدث عنها إلا  لأن الإنجليز معك.
  • ! -ولكنني أمين، والله إنني لأمين ابنك الفار.
  • -ليس لي ولد اسمه أمين، أمين ابني الذي أعرفه لا يمكن أن يترك الرجال في الجبال تقاتل وتموت كي يعيش هو في حضن أمه".

| زغرودة آمنة في أعراس آمنة 

أما في روايته " أعراس أمنة"، التي تسمت باسم امرأة تحكي ما عاشته لصحفية شابة، فلا يكف الوجع عن طرق باب قلبك بلا هوادة، تضحك مرة، لكنك تبكي مرارا، ستبكي أحيانًا من فرط قوتها وأحيانًا من فرط هواننا.
 
تُصّور هذه الرواية ازدواجية الحالة النفسية التي تعيشها أمهات الشهداء، والحالة النفسية المركبة التي تكمن خلف "زغاريد" لا يخبرها إلا الفلسطينيون. 

أما في روايته " أعراس أمنة"، التي تسمت باسم امرأة تحكي ما عاشته لصحفية شابة، فلا يكف الوجع عن طرق باب قلبك بلا هوادة، تضحك مرة، لكنك تبكي مرارا، ستبكي أحيانًا من فرط قوتها وأحيانًا من فرط هواننا. تقول آمنة في مرة:

"تسألينني لماذا البكاء؟ ومتى سأبكي إذًا؟ كلنا يا ابنتي، مَرَة واحدة من أول غزة إلى أخرها، لماذا لا نبكي؟ وهل يجب علينا أن نزغرد طول الوقت؟ لماذا؟ لأن أولادنا شهداء، ولكنهم أولادنا! كل يوم، كل ساعة، كل لحظة، أنتظر أن يدق أحدهم الباب ويأتيني بالخبر الذي لا أريد سماعه. كل هذا الخوف عليهم كل هذا الخوف، وفي النهاية يجب أن أزغرد، أتعرفين لماذا تبكي الأمهات خوفًا على أبنائهن طول الوقت؟ لأن عليهن أن يزغردن مرة واحدة واحدة فقط كي لا يخجلن من هذه الزغرودة التي يطالبهن بها العالم. تبكي الواحدة منا طول الوقت لأنها تعرف أن هناك لحظة آتية ستكون مضطرة لأن تخون أحزانها حين يكون عليها أن تزغرد".  وفي مرة آخرى تسال آمنة:

  • "-هل سيدفنونه هنا؟
  • -لا، هناك.
  • -ولماذا؟
  • -لأن المقبرة امتلأت.
  • -امتلأت ولكن كيف؟
  • -لأن الموت كثير، فقط لأن الموت كثير".

لم يكن ذلك إلا غيضا من فيض روايات نصر الله، وشخصياته النسائية الحقيقية الواقعية، الموجودة واقعا عبر آلاف من النماذج. وكل ما كتبه نصر الله وغيره من كتاب مخضرمين، ليس إلا سطرًا من الحقيقة؛ سطر واحد تمحوه صورة للأسيرة الطفلة عهد التميمي أو من شابهها. ونظل نكنّ لنسوة فلسطين امتنانا عظيما؛ كونهن رمق الحياة الأخير لنا جميعا.

-----------------

[1] الملهاة الفلسطينية:  ملحمة روائية درامية وتاريخية[1] للشاعر والروائي العربي الفلسطيني إبراهيم نصر الله،حتى الآن ضم هذا المشروع إحدى عشر رواية[3] لكل منها استقلالها التام عن الروايات الأخرى.[4] تُرجمت بعضها إلى الإنجليزية والإيطالية والتركية، فيما دخل بعضها الآخر في القائمة الطويلة والقائمة النهائية الجائزة العالمية للرواية العربية المعروفة بجائزة "بوكر". وبصدور رواية قناديل ملك الجليل عام 2011 تكون "الملهاة الفلسطينية" قد غطت مساحة زمنية روحية ووطنية وإنسانية على مدى 250 سنة من تاريخ فلسطين الحديث. [ ويكيدبيا]