بنفسج

غزة: عن أطفال هذه الأرض

الأحد 21 سبتمبر

أطفال غزة
أطفال غزة

من بين الخيام، وفي طوابير المياه والتكيات الغذائية وعلى بسطات البضائع.. ومن داخل النقاط التعليمية التي بدأت عامًا دراسيًا جديدًا قبل أيام.. لا أدري كيف يمكن أن يُكتب خبر كهذا: بدأ العام الدراسي الجديد في بعض النقاط التعليمية جنوب قطاع غزة، وسط أجواء من الإبادة.

عن الأطفال الذين كانوا يومًا لي خير علاجٍ نفسي، عن الدواء بلا جرعات، عن التشافي بلا حديثٍ عن وجع، وعن أولئك الذين تلتقط عدسة هاتفي فرحتهم في فعاليات ترفيهية؛ فتلتقطها روحي قبل عيني.. وعن الغصة التي تخنقني كل مرة أسمعهم يغنون لهذه الأرض: "حلوة حلوة يا بلدنا.. إيد بإيد بنبنيها".

فيسألني قلبي: "هل يعرف هؤلاء الأطفال معنى الأمن والسلام؟ وهل يدركون دلالة الأعلام أصلًا؟". "بالأذنين أسمع تغريد العصفور وهو يحلق فوق الدور". فيسألني قلبي: "أبقي دور أصلًا؟ وهل يسمعون العصافير أم طائرات الاستطلاع التي تحلّق فوق الخيام؟". 

فيسألني قلبي: "كيف سنبنيها وسط كل هذا الخراب؟"، "أنا إنسان لي إحساس أملك دومًا خمس حواس.. بالعينين أرى الأعلام تخفق في أمن وسلام". فيسألني قلبي: "هل يعرف هؤلاء الأطفال معنى الأمن والسلام؟ وهل يدركون دلالة الأعلام أصلًا؟". "بالأذنين أسمع تغريد العصفور وهو يحلق فوق الدور". فيسألني قلبي: "أبقي دور أصلًا؟ وهل يسمعون العصافير أم طائرات الاستطلاع التي تحلّق فوق الخيام؟". 

ثم باغتني قلبي حين أكمل: "وبلساني أتذوق حلوى وبها جسمي يصبح أقوى"، ليجيبني من دون سؤال: "لم يعد هنا حتى حلوى، من الأفضل ألا يتعلموا الحواس الخمس". "أنا ابن القدس ومن هون، مش متزحزح، قاعد فيها". يكفي يا قلبي، لقد عرفتَ الإجابة هذه المرة.

عن الأطفال وهم يتحدثون عن "الطحين المسوّس"، عن شحّه وانعدامه. عنهم وهم يذكرون الكوبونات الغذائية والصحية، وأسماء المندوبين والموزعين. عن أطفال هذه الأرض وهم يميزون بين أنواع الطائرات: طائرة الاستطلاع، والطائرات الحربية التي تطلق الصواريخ، وطائرات الكوادكابتر التي تطلق الرصاص عشوائيًا، وتلك التي تحلق فقط لبثّ أصواتٍ مخيفة.

عن طفلٍ عبّر لي عن خوفه أثناء القصف، متخيلًا أن مكان الضربة قريب جدًا، رغم محاولتي طمأنته أنها بعيدة، لكن طفلةً أصرت أنها كانت "تحت البلكونة". عن طفل آخر رأيته يركض نحو التكية حاملًا طنجرة بذراعٍ مبتورة، لم يجبني عن اسمه، حتى أجاب عنه طفل بجانبه. ابتسمت له وقلت بلا وعي: "أنت حلو"، فرأيته يتفاجأ كأنه لم يكتشف من قبل جماله.

عن طفلةٍ في الرابعة تنادي جدتها "ماما"، لأنها فقدت والديها في الحرب بعد أن جاءت للحياة بعملية زراعة. عن طفلٍ كان يحمل قربتي ماء وتعثر بهما، فطلبتُ أن يترك واحدة، فأجاب أنه يحمل الاثنتين معًا ليحافظ على توازنه. وعن طفلة أخرى فعلت الشيء ذاته، وحين سألتها إن كان ذلك يوميًا، أجابت بنعم لأنها لا تملك إخوة يساعدونها.

عن طفلة استوقفتني في الشارع مبتسمة، تسألني: "كيف حالك؟" كأنها تتدرب على قولها استعدادًا للقاءٍ ما أو لإلقاء كلمة أمام جمع من الناس. عن طفلٍ لا أعرفه، قدّم لي قطعة كعك منزلي الصنع قائلًا إنها "رحمة" عن روح ميت. وعن طفلٍ آخر في الروضة وزّع قطع بسكويت غير متساوية على زملائه، وأخبرهم أنها "رحمة عن روح والدته". صُدمت من صلابته وهو لم يتجاوز الأربع سنوات، وأيقنت أن العبوة الصغيرة التي لا تتجاوز ست حبات قد خبأها له أحدهم في حقيبته ليأكلها، لكنه اختار أن يتقاسمها عن روح أمه.

عن طفلة قاسمتني قرص فلافل نصفًا بنصف. عن أطفال النقطة التعليمية في مكان نزحي الذين يذكرونني بمشاهد "التغريبة الفلسطينية". عن أحلامهم البسيطة: "حلمي تخلص الحرب"، "نفسي أرجع بيتنا"، "نفسي آكل لحمة ودجاج". عن طفلة حدثتها عن الجنة، فسألتني بتلهف: "صح في الجنة فيه ألوان وقصص وكتب؟".

ليس على الهامش، بل في صميم القصة: بعد كتابتي هذا المقال، حضرت ورشة تدريبية حول التعنيف والتحرش والاستغلال بحق الأطفال. بقيت كل تلك القصص في كفة، والمصطلحات الجديدة التي أفرزتها الحرب في كفة أخرى: "طفل جريح ناجٍ وحيد"، "طفل غير مصحوب"، "طفل منفصل عن والديه"... لم تنتهِ القصص التي أعرفها ولا تلك التي لم أسمعها بعد. لم تنتهِ الإبادة… فقط تنتهي المقالات.