بنفسج

تحصنوا بالأوفياء... على قلتهم

الثلاثاء 19 سبتمبر

كانت والدة جدتي بمنزلها ذات يوم تستعد لاستقبال العيد، وفي الأغلب، كانت تخبز الكعك وغيرها من المخبوزات قُبيل العيد لتقديمها مع المشروبات المحببة لضيوفها. وبينما تركت قِدر العجين لتتفقد شؤونها الأخرى، عادت لتجد كلبها يحوم ويزوم حول القِدر وينبح وكأنه جُنّ أو أصابته لعنة، كان يدور حول قِدر العجين بهستيرية، ويعلو نباحه كلما حاولت جدتي تهدئته لتعلم أمره.

صرخت جدتي في وجه الكلب في محاولة صارمة لإسكاته، فما كان من الكلب إلا أن قفز في قدر العجين فجأة! انهالت جدتي على الكلب باللعنات وصبت جام غضبها عليه بعد أن أفسد العجين وأهدر مؤنها وجهدها، صارت تلعنه حتى وجدته فاقد الحراك وقد لفظ أنفاسه الأخيرة. كانت صدمتها قاسية لما وجدت بعدها بأيام حيّة كانت تحوم في غفلة من الجميع بنفس مكان قِدر العجين الذي أفسده الكلب منذ أيام. حينها أدركت جدتي أن كلبها المسكين، كان بنباحه الهيستيري يحاول أن ينبهها أن هذا العجين فاسد، لأنه رأي الحية تبث سمها فيه.

يهئ لي أن حزن جدتي وقتها لا يوصف، فمن منا صادف هذا الوفاء النادر من أي مخلوق حتى البشر؟ الحزن علي التفريط موجع جدًا، والحزن على التفريط في الأوفياء أوجع، فمن منا لا يلهيه نباح الكلب عن سُم الأفعى؟ من منا لا يمتهن صراخ الوفي لأنه لا يرى إلا بريق الغادر بعين الوضوح؟ في زماننا هذا، حيث يسهل بعثرة الحقائق وخلطها بالأكاذيب والألاعيب، الكثير منا يختلط عليه الأمر ولا يميز الخبيث من الطيب، ليس لسوء منا ولكن لأن من لا يملك الشر لا يدركه.

لقد فطرنا الله على الإحسان، وحسن الظن بالناس والأشياء، لا ننجرف نحو الإثم وسوء الظن إلا بعد سوء التجربة، ولما ينفذ الصبر ويتحول الحلم على الظالمين إلى لعنات، فيصير العقل لقمة سائغة بين فكي المخاوف، ونبتاع سوء الظن ظنًا منا أنه الحيطة.


اقرأ أيضًا: إنسانة قبل أي شيء


تذكرني هذه القصة بمنشور قرأته في شكاوي الناس بأحد الجرائد القديمة، وجدت أحدهم تسرد في ألم كيف وثقت بقريبة لها غدرت بها طيلة الوقت، وكيف أساءت الظن بصديقة نبهتها لمخاطر ما كانت ستُقدم عليه، وبعد أعوام عادت لتكتشف أنها رأت الأمور عكس نصابها حرفيًا، ومن ظنته موسى كان فرعون يرغب في خيبة أملها وكسر قلبها ودمار حياتها.

تقول الراوية في شكواها أنه قد عضها الندم، فأرادت الاعتذار عن سوء ظنها وشر ما فعلته بصديقتها المخلصة، وكان الوقت قد فات لتعود المياه لمجاريها وتعود الفتاتين أصدقاء من جديد. كان من العرفان منها أنها أصرت على الاعتذار رغم عدم حتمية النتائج. الحياة لا تعطي فرصًا ثانية أحيانًا، فلنستمسك بالأوفياء ونتحصن بمحبتهم من إثم الغادرين. الغدر من أحط أنواع الخيانة. والخيانة أنواع؛ النذالة درب من الخيانة، والترك درب آخر، والغدر أدناها قدرًا.

النذل يختار نفسه خوفًا، والتارك يختار نفسه طمعًا، أما الغادر فيختار نفسه حقدًا وانتقامًا، فاجر لا حد له، لذا كانت عقوبة الغدر في الدنيا أن يحبط عمله، وفي الآخرة الذل والفضيحة. "ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله". عن ‌ابن عمر -رضي الله عنهما-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الغادر يرفع له لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان بن فلان".

ومن ناحية أخرى، نجد في قصص السيرة النبوية منهاج للتعامل في مواقف استرداد الثقة وغفران ذلة المكر بالآخرين أو تغفيلهم، ليست كل الحالات سواسية. هناك من تجاوز النبي -صلى الله عليه وسلم- عن عثرتهم ببركة صدق فعل طيب، وهذا من باب إن الحسنات يذهبن السيئات. من أشهر هذه القصص قصة حاطب ابن أبي بلتعة. لما وجدوا مكتوبًا منه يخبر فيه أهل مكة ببعض أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- فسأله: "يا حاطب ما هذا؟".

قال: يا رسول الله لا تعجل علي، إني كنت امرأ ملصقًا في قريش ولم أكن من أنفسها. وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكة يحمون بها أهليهم وأموالهم، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أتخذ عندهم يدًا يحمون بها قرابتي. وما فعلت كفرًا ولا ارتدادًا ولا رضًا بالكفر بعد الإسلام، فقال رسول الله: "لقد صدقكم"، قال عمر: "يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق"، قال: "إنه قد شهد بدرًا وما يدريك لعل الله أن يكون قد اطلع على أهل بدر، فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم".


اقرأ أيضًا: ثلاثينية: العمر في ربيعه الدائم


إن ابتلي المرء منا بالغدر والغادرين، فليحسن الظن ويدعو لنفسه وللناس بالهدى. العفو من الله ورحمته تعالى وسعت كل شيء. وندعو الله بتقواه في نفوس عباده، وليسع المرء دومًا أن يعظم قدر الله فلا ينسى أن الجبار العادل يُضمد بالجبر ما ضُيع من الحقوق، وما يحدث في ملك الله يمر بأقدار الله، وحدث وكان ليحدث ليعلمنا درسًا، أو ليمحو الله به ذنبًا، أو يرفع به قدرًا، أو مثوبة من الله دون شِق عبادة.

ولنتفقد الطيبين، الطيبين في أفعالهم، الطيبين في مجملهم، الذاكرين للطيبات، العافين عن الزلات، من أجادوا الستر على الناس، استأمنوا الله فأمنهم، وتوكلوا على الله فكان حسبهم ووكيلهم. ومن وجد من أخيه ودًا فليتمسك به.