بنفسج

من ذاكرة النساء: ماذا قلن عن الانتفاضة الثانية؟

الخميس 28 سبتمبر

الانتفاضة الفلسطينية الثانية
الانتفاضة الفلسطينية الثانية

أناديكم أشد على أياديكم.. أبوس الأرض تحت نعالكم وأقول: أفديكم! لطالما طُبعت هذه الأغنية في ذهني كلما قيل: اليوم ذكرى الانتفاضة، يتردد في عقل الطفلة صاحبة الست سنوات آنذاك، أناديكم وقفت بوجه ظلامي يتيمًا حافيًا عاري. ثم يقفز في ذهني فورًا منظر محمد الدرة المحتضن لوالده والرصاص يتطاير فوقهم، وقلة الحيلة التي عانها في لحظاته الأخيرة، وجملة "مات الولد برصاصة".

23 عامًا وما زال المشهد حاضرًا كأنه حصل بالأمس، لحق الدرة الكثير الكثير من الأطفال حلقوا نحو السماء ونحتسبهم شهداء، وامتلأت الذاكرة بصور الأطفال الشهداء وأسمائهم. هنا نعود بالذاكرة إلى 23 عامًا إلى الانتفاضة الثانية التي اندلعت في عام الــ ٢٠٠٠، سنفتح الجروح التي لا تندمل مع ضيوفنا الذين سيتحدثون لنا عن الذاكرة المأساوية التي حاوطتهم من ذكريات الانتفاضة الثانية.

ذكريات طالبة عن الانتفاضة الثانية

انتفاضة الاق.jpg

تروي السيدة إيمان يوسف ذكريات الانتفاضة الثانية لبنفسج وتقول: "عدت الوطن برفقة عائلتي في بداية عام 2000، وبدأت بالاختلاط بالمجتمع الفلسطيني التي كنت أظن أن الشهيد والأسير لا نسمع عنهم إلا في نشرات الأخبار، ذُهلت أنني بالقرب من عائلاتهم، أذكر جيدًا يوم أن جاءت مديرة المدرسة إلى صفي وقالت من منكم ابنة شهيد! فرفعت طالبة يدها، فقلت وقتها هل حقًا رأيت ابنة شهيد، من هل نحن في نفس المكان، كانت الصدمة كبيرة عليَّ وقتها".
 
لم تتوقف إيمان عن التعبير عن دهشتها بكل ما شاهدته عن قرب وكانت تظن أن يُرى فقط عبر شاشات التلفزة، انتهت من مرحلة المدرسة وانتقلت للجامعة واختارت جامعة النجاح الوطنية بنابلس، فكان عائق البعد المكاني يحاصرها ففضلت البقاء في سكن الطالبات، قبل أن تبدأ حياتها الجامعية على حق اندلعت الانتفاضة الثانية وأغلقت الجامعة كون نابلس كانت منبع العمليات الاستشهادية، استمر الإغلاق لشهرين ثم اتُخذ قرار بفتح مراكز تعليمية في المدن حتى  تفتح الجامعة من جديد.


اقرأ أيضًا: سين/جيم: ماذا تعرف عن انتفاضة الأقصى؟


استمرت الانتفاضة الثانية لأشهر وبقيت إيمان تدرس معنى الكلمات التي كانت تسمع عنها عبر التلفاز عن قرب تفندها كلمة كلمة وتتساءل ماذا تعني الانتفاضة! وماذا يعني الاجتياح ومنع التجول! رأت الدبابة عن قرب وهي التي كانت تظن أنها ستراها فقط عبر أفلام الأكشن، بدأت تعيش حياة الفلسطيني الحق.

هدأت أوضاع البلاد قليلًا وشرعت إيمان بالدراسة في جامعة النجاح بنابلس، ولم تتوقف الاجتياحات لمدينة جبل النار أبدًا، تستذكر موقفا لم تنسه أبدًا على الرغم من مرور 23 عامًا عليه: "توجهت للجامعة ككل يوم في تمام الثامنة صباحًا وإذ بالدبابة أمامي في الشارع لا يفصل بيننا سوى أمتار قليلة، كان منظرًا مهيبًا لم أنسه في حياتي قلت ها باقي بيني وبين الموت خطوة، ولكني نجوت وعدت إلى البيت بسلام".

كانت تلك المواجهة الأولى لإيمان للدبابة وهي تراها عن قرب، فطبعت في عقلها جيدًا، لم يكن ذلك الاجتياح الوحيد التي عاشته إيمان بل تلاه اجتياحات عديدة، وفي مرات كثيرة كن الطالبات يتمازحن بينهن للهروب من امتحان ما ويقلن: "يارب يصير اجتياح". فتضحك إيمان وتذكر حين كانت في مواجهة من مسافة صفر مع الموت.

"والشهيد حبيب الله" هتاف الانتفاضة الثانية

 
"والشهيد حبيب الله" لم يكن يمر الأسبوع إلا وتسمع إيمان هذا النداء يجوب باحات الجامعة إذ تدخل جنازة الشهداء إلى الجامعة لتشيعها، ألفت أصوات الهتاف الفلسطيني للشهداء، وصادقت أبناء الأسرى والشهداء وعرفتهم عن قرب.
 
 تقول: "لم أنس مما حييت حين جاء شقيق صديقتي للجامعة ليخبرها أن هذا اللقاء هو الأخير لهما لأنه مطارد واحتمال اغتياله قريب، فودعته بالدموع، وسرعان ما جاء خبر استشهاده وشُيع في الجامعة كغيره من الرفاق".

ماذا عن معاناة الطلاب للوصول للجامعة آنذاك؟ تقول بتنهيدة عبرت عن ذكريات السنوات المريرة: "كنا نحتاج لسبع ساعات للوصول للجامعة بسبب كثرة الحواجز العسكرية ونضطر للالتفاف عبر طرق ترابية بسبب إغلاق حاجز مدخل نابلس، وكل هذا مشيًا على الأقدام، وكانت تساعدنا الدواب في حمل الشنط والكتب الثقيلة، فكان الأمر برمته معاناة خالصة بالنسبة لنا".

"والشهيد حبيب الله" لم يكن يمر الأسبوع إلا وتسمع إيمان هذا النداء يجوب باحات الجامعة إذ تدخل جنازة الشهداء إلى الجامعة لتشيعها، ألفت أصوات الهتاف الفلسطيني للشهداء، وصادقت أبناء الأسرى والشهداء وعرفتهم عن قرب، تقول: "لم أنس مما حييت حين جاء شقيق صديقتي للجامعة ليخبرها أن هذا اللقاء هو الأخير لهما لأنه مطارد واحتمال اغتياله قريب، فودعته بالدموع، وسرعان ما جاء خبر استشهاده وشُيع في الجامعة كغيره من الرفاق".


اقرأ أيضًا: ليرجمن " إسرائيل": هكذا كُنّ يتقاسمن الحجر


تكمل: "ومن المواقف التي هزتني من الداخل أيضًا، حين كنت أعد برفقة زميلاتي بالسكن الإفطار وإذ بصوت قوي يدك المدينة لم أستوعب أولًا أي شيء من قوة الصوت سرعان ما جاء الخبر وهو اغتيال مهندس قسامي ورئيس مجلس الطلبة سابقًا، وهدم كل العمارة التي كان يقطن بها عليه، كان الخبر قاسيًا علينا جميعًا وكأن الحزن أبى أن يفارقنا".

لم تكن تلك كل الذكريات التي عاشتها إيمان يوسف في الانتفاضة الثانية بل الذكريات أكبر من تُلخص في بضع مواقف، لم تنس أبدًا قساوة اللحظات وهي تشاهد أحبة الشهداء يودعونهم في الجنازات، لم تتجاوز منظر محمد الدرة وهو يحتمي بوالده، وهنا ذكرت بضع قليل من صندوق ذكرياتها من الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

زوجة مطارد في الانتفاضة الثانية

الرجل الذي كان مطلوبًا للاحتلال منذ اليوم الأول بالانتفاضة الثانية كانت تنتظر زوجته أن يعود لها شهيدًا، كل خبر يأتي عن الشهداء تسأل عن زوجهاتقول: كان يأتي زوجي لزيارتنا في الخفاء متنكرًا خشية أن يراه أحد ويغتاله، في أحد المرات خلال الانتفاضة الثانية جاء وجهه شاحبًا ونحيلًا وجسده منهكًا، ومرة أخرى جاء مصابًا برصاصة في خده الأيسر، لم تكن زيارته تتجاوز الدقائق وما أن يتجهز للمغادرة يتعلق به الصغار بقوة ويقولون: "بابا لا تروح خليك معنا"، فلم يكن بيده إلا الرفض واحتضان الأطفال بسرعة، فوجوده بيننا مغامرة بحياتنا جميعًا".

أما السيدة غادة يوسف من مدينة نابلس زوجة الشهيد بكر بلال التي عاشت حياة غير مستقرة، فزوجها عاش طيلة حياته مطاردًا من الاحتلال واُعتقل وصار أسيرًا في سجون الاحتلال، فكانت الأم والأب لأطفال صغار، في الانتفاضة الثانية طلب منها زوجها أن تنتقل للعيش في قرية قضاء نابلس بعيدًا عن مركز المدينة، فرفضت رفضًا تامًا أن تنتقل بأولادها وتشعرهم بتغير الحال عليهم.

الرجل الذي كان مطلوبًا للاحتلال منذ اليوم الأول بالانتفاضة الثانية كانت تنتظر زوجته أن يعود لها شهيدًا، كل خبر يأتي عن الشهداء تسأل عن زوجها، عاشت حرب الأعصاب على حقيقتها، تقول: كان يأتي زوجي لزيارتنا في الخفاء متنكرًا خشية أن يراه أحد ويغتاله، في أحد المرات خلال الانتفاضة الثانية جاء وجهه شاحبًا ونحيلًا وجسده منهكًا، ومرة أخرى جاء مصابًا برصاصة في خده الأيسر، لم تكن زيارته تتجاوز الدقائق وما أن يتجهز للمغادرة يتعلق به الصغار بقوة ويقولون: "بابا لا تروح خليك معنا"، فلم يكن بيده إلا الرفض واحتضان الأطفال بسرعة، فوجوده بيننا مغامرة بحياتنا جميعًا".

بقيت السيدة غادة في قلق طوال الانتفاضة الثانية كل ليلة اقتحام للمنزل وتهديد لها، رماها الجنود بالشارع في منتصف الليل والكلاب حولها هي والصغار، ومرة أخرى جاءوا لاعتقالها لكن لطف الله ومعيته حمتها فكانت تجلس في بيت الجيران حين بحثهم عنها فنجت وقتها.


اقرأ أيضًا: رابطة أمهات شهداء فلسطين: من جرحك تصنع أغنية


تضيف بمرارة عن صعوبة الحصول على الاحتياجات الأساسية: "قررت في مرة الخروج لجلب حفاظات للأطفال من بيت جيراني الذي يبعد مسافة عنا، حاول كل من أم زوجي ووالده منعي من الخروج لكني رفضت لأني كنت أستخدم القماش بدلًا من الحفاظات فكان الوضع لا يحتمل، كنت أعي جيدًا ماذا يعني الخروج من المنزل آنذاك، ذهبت ومشيت بجانب الحائط شاهدني جيب عسكري وأطلق الرصاصات علي، لكنها لم تصبني ونجوت".

عاش أهالي نابلس حياة صعبة في ظل الاجتياحات المستمرة ومنع التجول، وعاني أكثر أهالي المطاردين، لك يكن هناك ماء ولا كهرباءـ حتى الطعام نفد، انتهت الانتفاضة وظنت السيدة غادة أن زوجها المطارد أصبح شهيدًا بعدما أوهمهم الاحتلال بذلك لكنها في ما بعد عرفت في أي معتقل يقبع.