على باب بيت العزاء يقفن كالبنيان المرصوص رغم هشاشة قلوبهن المليئة بالأمومة والألم، ويبدأن بعد ذلك بالتوافد على صاحبة بيت الأجر، التي لا يختلف حالها كثيرًا عن حالهن؛ فهي أم شهيد أو ربما زوجته أو ابنته، أو لربما يكون فقيدها أسير، مشهد يتكرر بعد كل اشتباك مع العدو في حنايا هذا الوطن المسلوب، أو بعد ليالي الاجتياحات المتكررة المحملة بالرصاص والدم والسلاسل، ثلة مصطفاه من أمهات الشهداء والأسرى وقريباتهن، حديقة غناء من أقمار الصابرات المرابطات المجاهدات، أو كما يسمين أنفسهن بـ "رابطة أمهات شهداء وأسرى جنين" .
رابطة أمهات شهداء وأسرى جنين هي مجموعة من النساء اللواتي يتشاركن ذات الألم؛ وهو فقد ابن أو زوج أو أب أو أخ بالشهادة أو بالأسر، جمعتهن مدينة جنين باجتهاد شخصي دون انتماء لأي حزب أو فصيل أو مؤسسة، فدماء الشهداء هي رابطتها المقدسة والانتصار لكل الأسرى هو عنوانها، وهدفهن خالص لوجه الله .
رابطة أمهات الشهداء: بداية الحكاية
تقول وفاء جرار: "كنت دومًا أحتاج من يقف بجانبي في محنتي المتكررة وقت اعتقال زوجي، ينصحني ويشاركني همومي ، يهوّن علي ويمسح على جرحي، ويتعاطف معي، كان هناك البعض ممن فعلوا ذلك بالطبع، ولا أنسى فضل أحد، ولكن كانت مبادرات شخصية ، تهب أحيناً وتخبوا أخرى، لذلك قررت أن أكون من يغير المعادلة .. أن أكون " فاقد الشيء .. ومن يعطيه بسخاء "، وأن أكون ومن معي بلسمًا لجراح الناس الذين يعيشون ما عشناه ونعيشه تكرارًا ومرارًا".
بدأت الحكاية مع السيدة وفاء جرار أم حذيفة، زوجة لأسير دون إجازة من أسره، فالأسير الخمسيني عبد الجبار جرار من جنين لم يزل في رحلة عذاب مستمرة بين ذهاب وإياب من وإلى السجن حتى وهو في هذا العمر، أما عن وفاء جرار الأربعينية، فلها من اسمها كل نصيب وفيةً لزوجها ولعهدها معه.
تقول وفاء: "أول مرة تركني فيها زوجي كنت طفلة وكبرت أنا وأطفالي سويًا، ولكن أي ترعرع وتنشئة تلك التي كبرت في كنفها، فقد كبرت على ألم وفراق واشتياق وصعوبات ومسؤوليات لم يستطع زوجي أبو حذيفة أن يحملها عني ومعي، فهو غالبًا كان غائبًا قسرًا وكرهًا".
هذا النقص أحدث معادلة عكسية خارجة عن المألوف والظروف الطبيعية، فمن هو فاقدٌ للشيء بات هو من يعطيه بسخاء، وأصبحت أم حذيفة هي الكف الذي يواجه المخرز.
اقرأ أيضًا: تهاني العويوي : الأسر ليس غصة قابلة للاعتياد
تضيف جرار: "المرأة الفلسطينية تمر بحالات فقد وألم كبير، ولكن لطالما كنا نراها بصورة المرأة القوية الصلبة، هؤلاء النسوة يحاولن أن لا يفتحن للفئة السلبية من المجتمع باب اللوم والانتقاص في حال أظهرن ضعفهن، كأن يقولوا: "خلي جوزك يقعد ليش سامحتيله ينحبس.. مش أنت اخترتي تكوني زوجة أو أم شهيد هذا الضريبة اتحمليها .. وغيرها من الكلمات". خلف هذه القوة هناك ضعف وألم وحاجة كبيرة للمواساة والتخفيف والتطبيب، وأنا من تجربتي الشخصية أعلم ذلك تمام العلم ، لذلك أخذت على عاتقي أن لا أترك أم شهيد أو أسير أو زوجة شهيد أو أسير إلا وأكون سندًا لها ولأبنائها ، أشعرهم جميعًا أني ومن حولي نشاركهم وندعمهم ونفهمهم ..".
من هنا لمعت فكرة الرابطة التي لم تكن تسمى بهذا الاسم في عقل أم حذيفة، ولم تكن تعلم لحظتها أن من سيرافقنها في ما بعد كثيرات وفي ازدياد يومًا بعد يوم.
بدأت السيدة وفاء مشوارها مع صديقتها أم اسامة قبها على نفقتهن الخاصة، وبعد أن كبرت الرابطة كان لا بد من مصدر مادي للانفاق على تحركات الرابطة، تقول أم حذيفة: "يوجد لدينا صندوق صغير باسم الرابطة، تضع فيه كل منا مبلغًا بما يتناسب مع قدرتها، وهو ما ننفق منه على مواصلتنا، فنحن مجرد نساء فلسطينيات ذقنا جراح كثيرة، وكنا بلسمًا لبعضنا البعض دون خلفيات سياسية أو ألوان".
أم أسامة قبها: شريكة في رابطة أمهات الشهداء
تسنى لبنفسج أن تحاور أم أسامة قبها التي شاركت أم حذيفة بداية بزوغ الرابطة، لطالما كانت أم حذيفة وأم أسامة أختين، ليس لأم واحدة بل لـ همّ واحد وعهد واحد، فزوج السيدة نظيمة المطاحن أم أسامة كان المهندس وصفي قبها، هذا الرجل الذي حمل لقب وزير الأسرى، قلبًا وقالبًا، فشغل هذا المنصب لفترة، وشغل منصب حمل همّ الأسرى والشهداء حتى نهاية عمره، وبجانبه زوجته التي كانت وما زالت على عهده .
تقول السيدة نظمية زوجة المرحوم وزير الأسرى السابق وصفي قبها: "كان زوجي لا يترك عائلة أسير أو شهيد إلا وزارها وواساها وكان لها السند والمؤازر، وعندما كان يُعتقل أحمل أنا هذه الأمانة بديلاً عنه وأمضي لأكون على عهده مكل أسير وجرح وشهيد، ومازلت أحمل الأمانة حتى بعد وفاته".
اقرأ أيضًا: بيسان وصفي قبها: زهرة "نصير الأسرى" وغرسه
تضيف "أنا أعلم جيدًا ما معنى الفقد، زوجي كان لا يكاد يخرج من السجن حتى يعود إليه مرة أخرى، وبعد سنوات التضحية فقدناه في جائحة كورونا، عاهدته أن أطبب جراح من فقدن أزواجهن وأولادهن، ولا سبيل لعلاج جرحي إلا بأن أكون بلسمًا لغيري".
كانت السيدتان وفاء ونظمية يسمعن ما فقدت جنين في كل صباح من شهداء؛ فيركبن السيارة ويبدأن بزيارة بيوت العزاء، يحتضن أمهات الشهداء ويحاولن التخفيف عنهن ما استطعن لذلك سبيلًا.
تجارب عملية
أم يوسف التي تعتبر أم أصغر شهيد محتجز جثمانه لدى الاحتلال، كانت أقصىى أمنياتها أن ترى وحيدها شابًا ناجحاً ملتزماً، أن تراه يزف رجلًا بأكتاف عريضة، وتفرح بوحيدها الذي جاء بعد طول انتظار، ولكن رحل ابن 12 عامًا دون وداع، تقول أم يوسف: "يوم استشهاده بقيت أسبوع على المهدئات ليس لقلة إيماني ولكن قلبي كان أضعف من احتمال هذه الفاجعة، لم يستطع عقلي أن يدركها.
تكمل: "وبعد مدة ذهبت لوقفة تخص جثامين الشهداء المسروقة، لم أحتمل فانهرت هناك مرة أخرى، ولم يخفف عني ويطبطب على قلبي إلا نساء رابطة أمهات الشهداء والأسرى، كن لي خير مواس وخير معين ".
كالسنبلة كبرت هذه الرابطة التي بدأت باثنتين لتؤتي أكلها بعد ذلك، وتكبر يومًا بعد يوم أكثر وأكثر، تقول أم حذيفة: "من كنا نعزيها بالأمس باتت تخبرنا اليوم بأنها تريد أن تكون معنا، فلا يعلم الجرح ودواءه إلا من كان به ألم، والبعض الآخر، كنا نحن من نقترح عليهن مرافقتنا، لأننا كنا نرى عمق جراحهن ونعلم أن نشاطهن معنا في الرابطة سيكون خير طبيب وتطبيب".
وتضيف أم يوسف: "في أول بيت عزاء ذهبت معهن إليه لم أتمالك نفسي وبكيت، حتى جاءت أم الشهيد التي ذهبنا لعزائها تواسيني وتمسح دمعي حين علمت أني فقدت وحيدي وهو طفل، وبعدها بت أقوى وأقوى، وبت لا أفوت بيت عزاء أو زيارة لبيت أسير إلا وذهبت، لأني كنت أشعر كم يخفف عني هذا، فأم الشهيد وهي وحيدة دمعها لا يجف، ولكن بقاءها مع من يتقاسمون معها ذات الوجع يخفف عنها كثيرًا".
اقرأ أيضًا: يسرى العكلوك: عن رسائل الحُبِّ التي خبأها أسامة الزبدة
وعندما سألناها ما سر القوة التي يرى بها الناس أمهات وزوجات الشهداء، أجابتني أم يوسف: "الناس ترى أم الشهيد والأسير أو زوجاتهم قويات، يتغنون بقوتها وصلابتها، ولكنهم لا يعلمون أنها امرأة ككل النساء تحتاج للمواساة والمؤازرة باستمرار، تحتاج أن لا تترك وحيدة فطيف فقيدها لا يتركها أبدًا".
من جنين .. أما بعد
تخبرنا أم الشهيد أمجد عزمي، السيدة منال منصور الذي استشهد في تاريخ 16 آب/ أغسطس 2021، في اشتباك مسلح في مخيم جنين، وسُرق جثمانه، تقول: " كان جرحي غائرًا على فقد ابني، جاءني لبيت العزاء الكثير من المعزين لم يتركني الأهل والأصدقاء، ولكن لا يفهم جرح الفقد إلا من مرّ به، لا أنسى زيارة أم حذيفة وأم أسامة لي وغيرهن من أهالي الشهداء والأسرى من كل الضفة كلماتهن كانت كالبلسم، لذلك حذوت حذوهن ومشيت بصحبتهن بعدها وكان لهذا الأمر تأثيرًا إيجابيًا عليّ".
امتدت رابطة جنين وصولًا إلى مدن الضفة كاملة، وبدأت أمهات ونساء الشهداء والأسرى في المحافظات الأخرى باستنسخنها في نابلس ورام الله وغيرها، فأصبح هنالك رابطة أمهات شهداء وأسرى نابلس.
اقرأ أيضًا: زينة أبو عون: الارتباط بالأسرى قرار بالوقوف في خندق النضال
قال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وفي تفسير لأحد العلماء عن هذا الحديث، يقول: "وهذه الأمور الثلاثة متقاربة في المعنى، إلا أن لكل منها معنى محدد ، فالمودة هي خالص المحبة، واصغاء القلب وميله إلى المحبوب، وأما الرحمة فتكون بالقلب وتظهر آثارها بالشفقة على المرحوم والتوجع له، ومحبة الخير له، والتأذي بما يحصل له من الضر، وأما التعاطف؛ فإن العطف يدل على شفقة على المعطوف عليه، وجاءت هذه الكلمة من العون والتضافر والانعطاف نحو المعطوف عليه والالتفاف حوله".
رغم أن الجسد كله مصاب بالفقد والاشتياق والحرمان إلى أن المرأة الفلسطينية جسدت، كما كانت دومًا، شكلًا جديدًا من أشكال الصبر والقوة، فأعطت ما كانت تفقد وداوت رغم أنها لديها جرح ينزف.