بنفسج

العونة تحت القصف: تكافل اجتماعي أبرزته الحرب في غزة

الخميس 07 ديسمبر

غزة اليوم كالبيت الكبير، شأن الغزيين كالإخوة في البيت الواحد، المقاومة سطرهم الأول، يثبتون فيثبت أهل البيت أجمعين، المشرد كل البيوت بيته، والجائع كل المؤن المخبة له، يصابرون ويرابطون بهذا التعاضد، ويقولن: حياتنا واحدة ومماتنا واحد...

لا تعتبر مشاهد العونة، التكافل، التضامن، الفزعة، جديدة في القاموس الفلسطيني، ولا هي مستحدثة، بل هي أصيلة في تراثه الشعبي والتاريخي والديني بصورة يومية. فمنذ تاريخ الثورة الكبرى الأولى 1936، وقبل ذلك، وحتى حرب الطوفان التي تشهدها غزة حتى الآن، والناس يشدون بعضد واحد، وجسد واحد، فإذا وقفت على السدود مقاومًا ومدافعًا ومنافحًا، أقف خلف ظهرك لأحميه، وأحمي بيتك وأرضك وعرضك، أطعم كل من على الثغور وأخبئهم. وتكاد تكون مفاهيم الفزعة حاضرة في الحياة اليومية الفلسطينية وليس فقط في الأحداث والهبات والحروب.

العونة في الموروث الشعبي الفلسطيني

العونة 7.jpg
العونة، مفهوم فلسطيني أصيل، يظهر جليًا في القرى الفلسطينية في مواسم الزيتون، الأفراح، الأتراح وغيرها

العونة من العون أو المساعدة بشكل تطوعي وبدون مقابل مادي وهي منتشرة في القرى والبلدات والمدن والمخيمات الفلسطينية، تتجلى أثناء بناء المنازل؛ إذ يتساعد أبناء البلدة بنقل الطوب والحصى إلى حين "عقد السقف". وكذلك مواسم الحصاد مثل حصاد القمح والشعير، وقطاف الزيتون الذي تتكاتف فيه الأيد الكثيرة، فمن ينهي حصاده يساعد الأصدقاء والأقارب والجيران، يدًا بيد.

كما يتكافل الناس في المناسبات الاجتماعية؛ فتجدهم يفزعون في الفرح والترح، يلازمون أهل الفرح، وأهل الميت بسواء، منذ اللحظة الأولى، فمن عادات القرى القيام لأهل الميت طعاما ومواساة منذ اللحظة الأولى التي تسبق الدفن وحتى أيام العزاء الثلاثة ويزيد.

يقول صلى الله عليه وسلم: (مَنْ كَانَ مَعَهُ فَضْلُ ظَهْرٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا ظَهْرَ لَهُ، وَمَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ مِنْ زَادٍ، فَلْيَعُدْ بِهِ عَلَى مَنْ لَا زَادَ لَهُ". وفي هذا الحديث تتتكاثف معاني التكافل بكل أشكاله، وهو متجذر في المعاني الدينية، فلا ينفصل إيمان الفرد دون أن يكون همّه من هم أخيه وجاره وصديقه وابن بلده.

ابتداء من إطعام الطعام، ومن ذلك قول الرسول في الحديث القدسي: (يَا ابْنَ آدَمَ اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي؟ قَالَ: يَا رَبِّ، وَكَيْفَ أُطْعِمُكَ، وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّهُ اسْتَطْعَمَكَ عَبْدِي فُلَانٌ، فَلَمْ تُطْعِمْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ أَطْعَمْتَهُ لَوَجَدْتَ ذَلِكَ عِنْدِي). ويتجلى ذلك في المال والصدقات، وقد عرفنا منه التكايا التي يجمع فيها الطعام، ويطبخ بكميات كبيرة، والذبائح في عيد الأضحى وغيره من المناسبات الدينية والاجتماعية.

مظاهر التكافل في الانتفاضتين

المدارس الشعبية.png
صورة توضيحية للتعليم الشعبي الفلسطيني إبان الانتفاضة الأولى 

ومنذ الانتفاضة الأولى برزت مظاهر جديدة للتضامن، مثل حماية المقاومين وإيوائهم، وتحطيم الكاميرات المحيطة ببيوتهم وأماكن عملهم، وتوفير مسكن لمن انقطعت به السبل، وتقديم الطعام في الجبهات المختلفة، ونذكر من ذلك ما روته الجدات قبل ذلك في النكبتين الأولى والثانية: "كنا نستقبل النازحين، ونؤويهم، ونخبز لهم، ولا نسألهم عن شأنهم ما لم يقولوا، ومنهم من استقر في البلدات القديمة بمساعدة الأهالي".

ومن الناحية الأخرى فقد أخذ المعلمون على عاتقهم مسؤولية التدريس عندمنا أغلقت المدارس وجرّفت الطرق، وذلك في بيوتهم أو دواوين العائلات، أو المساجد، أو تحت الأشجار في البساتين، وقد نظمت الصفوف فيما عرف بالتعليم الشعبي في أنحاء الضفة وغزة أثناء الانتفاضتين.

إذ تحول منزل أستاذ اللغة العربية عبد الله الحواجري في معسكر جباليا إبان انتفاضة الحجارة "الأولى" إلى مدرسةٍ مصغرة لم تتوقف عن استقبال الطلبة والطالبات على شكل مجموعات حينما شكلت اللجان الشعبية في المخيمات والأحياء لجانًا من المدرسين وطلاب المدارس والجامعات ورياض الأطفال لمواصلة العملية التعليمية. وقد أثبت النضال الشعبي أنه قادر على الاستمرار.

وإضافة إلى اللجان الشعبية التي شكلت بالحارات والمخيمات فقد طبقت الجامعات نظام التعليم الشعبي أيضًا ونظمت برامج تعليمية للطلبة واستطاعت بعض الجامعات في تلك الآونة تخريج عدد لا بأس به من الطلبة. يقول نجل الحواجري: "خصص أبي غرفة وحوَّلها لفصل دراسي ووضع لوحًا خشبيًا مطليًا باللون الأخضر، ليسهل عليه شرح الدروس للطلبة الذين يريدون استكمال التعليم، كذلك أنشأت اللجان الشعبية حواصل من ألواح الزينكو وكان يتجمع فيها الطلبة ويدرسون في أثناء إغلاقات المدارس". يضيف: "كان الطلبة يأتون إلى منزلنا يوميًّا، إذ كانت الدراسة تتعطل لأسابيع وأحيانًا يصل إغلاق بعض المدارس إلى شهر كامل أو أكثر".

مظاهر التكافل في حرب الطوفان

مستشفيات ه.png
حملات طوعية مجتمعية لتنظيف المستشفيات في قطاع غزة في حماولة لإعادة تشغيلها في حرب طوفان الأقصى

وغزة اليوم ونموذجها ليس ببعيد عن تجليات التضامن والتكاتف، بل يضاف إليها الفزعة الإلكترونية التي تساندهم وتثبت روايتهم وقصصهم وتكررها في سبيل وقف الظلم والعدوان والقتل اليومي.

أولاً: استقبال النازحين في الجنوب: في غزة، ومنذ بداية الحرب في السابع من أكتوبر 2023، سرعان ما انقطعت امدادات الماء والغذاء والوقود والكهرباء وسبل الحياة فيها. وانقطعت المواد الصحية الأولية ومواد الطعام الضرورية كالطحين، وهاهي الحرب تستمر لأكثر من 60 يوميًا، شهران متتابعان وغزة تدك وتضرب وتجوَع، فكيف تستمر حتى الآن؟

يظهر في المشاهد وما تنقله الروايات وما نسمعه من أهلنا في غزة، أن غزة تحولت إلى بيت واحد، إذن فالمصاب واحد، فالنازح يستقبله الأهلون من غير الأقرباء في المناطق الأخرى، وتُفتح لهم أبواب الدار، وإذا كان لدى أحدهم كيس من الطحين، وزعه وتقاسمه مع الجيران والآخرين ممن يحيطون به، بينما تخبز النساء في كل مكان متاح، إذ حولت الأفران الكهربائية إلى أفران حطب، وقد بنى البعض ممن يتقنون بناء الطابون بالطين.

تقول إحداهن وهي من مدينة خان يونس: "منذ بدء نزوح أهلنا من الشمال في الشهر الأول من الحرب نزلنا إلى الشوارع بما يتيسر لنا من ماء وطعام، وجدنا منهم الجريحن ومنهم من تركه بعض عائلته خلفه، ومنهم من شاهد القتل بأم عينيه. فتحنا لهم بيوتنا، وقاسمناهم طعامنا وشرابنا.

وتقول أم أمجد وقد عرفت بماقيشها الشهية وابتسامتها المعهودة رغم كل المآسي والظروف: "نحاول القيام بما نستطيع به، قسمنا أنفسنا إلى مجموعات؛ حاول الشباب تأمين الطحين
 
 أمن لنا الشباب مواقد حطبية وأشعلنا النيران، وبدأنا نخبز في مجموعات. صنعنا المناقيش والبيزا وأرغفة الخبز، وزعنا على المارة وقسما على الصحافيين، وكنا أحيانًا نتمكن من إيصال المستشفيات القريبة".

ثانيًا: إطعام الطعام في القطاع: رأينا كثير من المزارعين من أصحاب الأغنام والأبقار يذبحون بكمايات كبيرة ويطبخونها ويقدموننها للأهالي والنازحين. وهذا ما أكد عليه أبو قاسم، وهو تاجر أبقار معروف في غزة إذ قال: "اليوم يوم البذل، لا شيء لادخاره، لا قيمة للمال والحلال في الحرب... وفد إلينا الأهل بالآلاف، ولا طعام ولا ماء ولا مأوى، عزمت ومجموعة من تجار الأبقار والأغنام إقامة تكيات ومؤدبات يومية تقدم للنازحين في مدارس الإيواء. بالفعل، قدمناها لمجموعة من الطباخية الذين أقاموا مواقد كبيرة وطبخوها في قدور، الكبسة والأوزي وغيرها مع اللحم تقدم للعائلات، وهذا ليس من عطائنا، وليس من أمولنا بل هو من مال الله آن أوان استرجاعه، نسأل الله لنا القبول".

يظهر في المشاهد وما تنقله الروايات وما نسمعه من أهلنا في غزة، أن غزة تحولت إلى بيت واحد، إذن فالمصاب واحد، فالنازح يستقبله الأهلون من غير الأقرباء في المناطق الأخرى، وتُفتح لهم أبواب الدار، وإذا كان لدى أحدهم كيس من الطحين، وزعه وتقاسمه مع الجيران والآخرين ممن يحيطون به، بينما تخبز النساء في كل مكان متاح، إذ حولت الأفران الكهربائية إلى أفران حطب، وقد بنى البعض ممن يتقنون بناء الطابون بالطين.

وتقول أم أمجد وقد عرفت بماقيشها الشهية وابتسامتها المعهودة رغم كل المآسي والظروف: "نحاول القيام بما نستطيع به، قسمنا أنفسنا إلى مجموعات؛ حاول الشباب تأمين الطحين لأنه فقد بعد فترة وجيزة من الحرب وأصبح يباع بأثمان غالية، أمن لنا الشباب مواقد حطبية وأشعلنا النيران، وبدأنا نخبز في مجموعات. صنعنا المناقيش والبيزا وأرغفة الخبز، وزعنا على المارة وقسما على الصحافيين، وكنا أحيانًا نتمكن من إيصال المستشفيات القريبة".

قصف قصف.png
يتعاون الأهالي في غزة في إخراج الجرحى والشهداء من تحت الركام خصوصًا في ظل أزمة الوقود وضعف الإمكانيات

ثالثًا: المشاركة في أعمال الإنقاذ وانتشال الشهداء: المسارعة إلى مكان القصف والتنقيب عن الحرجى، كثيرًا ما شهدنا أيضًا أن البيت الذي يقصف يتبعه الناس بكثره للتنقيب عن الجرحى أو الجثث بأيديهم وما قل من أدوات ونقلها وتكفينها ودفنها والصلاة عليها. ونتذكر مشاهد كثيرة من القصف التي يسارع إلى أماكنها الشبان والرجال من غير المسعفين، إذ يجتمعون خلال دقائق ويساعدون قبل وصول طواقم الإسعاف التي لم تعد تصل في الوقت المناسب بسبب تقطيع اوصال غزة، وانقطاع الاتصالات، إذ أخذ هؤلاء الشبان على عاتقهم التنقيب بأيديهم عن كل من يتوقع أنه على قيد الحياة أو حتى جثة فارت الحياة أو أشلاء تناثرت من شدة القصف.

يقول أحدهم: "ننتشر خلال دقائق من مناطق القصف القريبة، نضيء هواتفنا، ننصت بصمت، لا ينبس أحدنا فلربما نسمع صوت طفل أو رضيع أو أحد ينادي ويستنجد، وبالفعل نتمكن من سماع أحدهم هنا وهناك، فنتحدث غليه ونطمئنه، وننقب عليه بأيدينا وأظافرنا، حتى ننتشله، كثيرا ما ننتشل الجثث أيضا وأحيانا للأسف تكون أشلاء من شدة القصف. ولقد شاهدنا ما يدمي القلب، يد هنا ورأس هناك...لكننا نستمر فليس باليد حيلة. وما إن ننتهي من مكان حتى نسمع صوت صقف قريب فنهرع مرة أخرى".

ويقول آخر: "أحيانا نستمر في البحث والتنقيب لأيام وليالي، نتصل على من نعرف تحت الانقاض، أحيانا نتلقى ردا وطلبا للمساعدة، وأحيانا يغلق الهاتف بعد فترة فلا يكون هناك سبيل للإنقاذ بسبب قلة المعدات... تبقى الأمهات ينتظرن حول الأنقاض كمن يقف على الأطلال لعله أمل بسماع طفلها...".

"ننتشر خلال دقائق من مناطق القصف القريبة، نضيء هواتفنا، ننصت بصمت، لا ينبس أحدنا فلربما نسمع صوت طفل أو رضيع أو أحد ينادي ويستنجد، وبالفعل نتمكن من سماع أحدهم هنا وهناك، فنتحدث غليه ونطمئنه، وننقب عليه بأيدينا وأظافرنا"

رابعًا: الفزعة الطبية: وهناك نموذج العاملين في القطاع الصحي؛ إذ لم يبق أحد من المتخصصين في الحقل الطبي من الأطباء الجراحين والممرضين والمسعفين إلا وتطوع بالكامل، حتى لو كان زائرًا بشكل مؤقت في قطاع غزة. وقد علمنا بمجموعات بقيت في القطاع من "أطباء بلا حدود"، وغيرهم من المجموعات التطوعية من أنحاء العالم، وبعضهم غزيون كانوا متواجدين خلال نشوب الحرب، فرفضوا العودة، وباشروا بأعمالهم، منهم جراحون معروفون ومنهم من يتخصص بالأمراض الجلدية، وأخصائي نساء وغيرهم. وقد تعرضوا للخطر واستشهد بعضهم، من الطبيبات والأطباء الذين واصلوا الليل بالنهار دون أن ينقطعوا ودون أن يروا عائلاتهم لفترات طويلة.