بنفسج

حارسات الميــدان: حرب المستشفيـات

الإثنين 25 ديسمبر

حرب المستشفيات
حرب المستشفيات

في خضم انتشار كوفيد-19، على مدى السنوات الأخيرة الفائته، كانت كل الجهود والتحايا تنقل إلى الجيش الأبيض الذي رُفعت له القبعات في كل بقاع الأرض. هذا الجيش الأساس والواجهة الأولى دومًا في حماية مجتمعاته المختلفة وبكل مقدراته مهما كَثُرت أو قلت، وكذلك دورهم في الحروب.

الآن وأثناء هذا الإجرام المُتصاعد، وعلى مدى ما يُقارب الشهرين ونصف من الإبادة الجماعية والتطهير الذي تتعرض له غزتنا الحبيبة، كان الدور الطبي في الواجهة مع الاحتلال كما البندقية. لا أذكر كمّ الأحداث المرعبة المؤلمة التي تعرض لها هذا الجيش العملاق قيمةً وقامة، والتي يجب رصدها وتصديرها للإعلام والعالم على حد سواء.

الكادر الطبي الذي وصل إلى الحفرة وسقط عن شفاها بسبب الهجوم المقصود والمُمنهج للاحتلال لتدمير البنية التحتية والعلاجية للقطاع. من استهداف مباشر للأطباء وعوائلهم وتهديدهم أو إخفائهم أو الاعتداء عليهم بشكل بشع ومستمر. أو من خلال التضييق عليهم بمنع أبسط المتطلبات الطبية العلاجية لاستمرار عملهم من أدوات تخدير وجراحه وغيرها.

وهنا يجب الإشادة بدور الطبيبات الفلسطينيات اللواتي كنّ رأس الحربة جنبًا بجنب مع كل ما تعرض له الشعب الغزيً، فهناك الشهيدة والمصابة والفاقدة والمفقودة.

 حرب موجهة تستهدف الأطباء

الطبيبة إسراء الأشقر.jpg

الطبيبة الشهيدة إسراء الأشقر، طبيبة التخدير في المستشفى الإندونيسي، التي استمرت في تأدية عملها، وبمجرد عودتها إلى بيتها، قصف على من فيه، واستشهدت برفقة 17 فردًا من عائلتها، ولم تكن الأولى ولا الأخيرة بهذا الاستهداف الغاشم للأسف.

وكذلك طبيبة النساء والتوليد والعقم، ابنة حي الشجاعية الذي أُبيد عن بكرة أبيه، الطبيبة ناهد الحرازين الذي اغتالها الاحتلال الإسرائيلي في بيتها مع 10 أفراد من النساء والأطفال في الثامن من ديسمبر. جهودها الدائمة في خدمة النساء الغزيات جعلها من أحب الطبيبات وأشهرهن في مجالها لما يقارب العشرين عامًا من مساعدة النساء،عايشت حروب غزة كلها وكان آخرها طوفان الأقصى الذي بمجرد بدئه تطوعت في مستشفى الشفا أثناء الحرب الدائرة الحالية، وبمجرد ذهابها لبيتها تم اغتيالها مع 3 نساء و7 أطفال من عائلتها.

ما قدمته الحرب من مفاجآت للكادر الطبي

إسلام النجار.jpg

مرت الكثير من الطبيبات الفلسطينيات في غزة بالأهوال، فبمجرد كونها قائمة على رأس عملها، ترى زوجها أو فلذات كبدها أو كل عائلتها بين الشهداء و الجرحى بين يديها! قمة الصدمة والوجع أن تسمع وترى وتشهد على هذا الفراق الأبدي بهذا الشكل الكارثي المفاجئ.

الدكتورة غادة أبو عيدة تقف في بوابة المستشفى الإندونيسي في غزة مستقبلةً سيارات الإسعاف والمصابين لإسعافهم وتقديم خدماتها الطبية المعتادة بكل قوة وتفانٍ، لتتفاجئ بأبنائها بين شهيد وجريح. تركض خلفهم بحالة من الصدمة الهيستيرية تُزلل كل من تابعها وجعًا معها وتعاطفًا مع صدمتها.

كيف لها أن تهدأ وهي ترى أحلام عمرها ممددةً غارقة بدمائها أمامها. فقدت ابنها شهيدًا وباقي فلذاتها جرحى، وهي التي لم تغادر المستشفى منذ اليوم الأول للحرب.

إسلام حسن، ممرضة متطوعة في مستشفى النجار، فقدت أختها وحيدتها ذات العامين في قصف قوات الاحتلال لبيتها. لم تعرف إسلام خبر استشهاد فرح إلا بعد يومين بسبب انقطاع الاتصالات عن غزة، وكانت قد دفنت ونقلت والدتها المصابة إلى المستشفى.

طبيبة مقيمة في مستشفى الشفاء.jpg

لم تُقبّلها قبلة الوداع ولم ترى عينيها الجميلتين، ولم تستطع أن تأخذ منها حضنًا طويلًا يسند شوقها الكبير ويشفي جراحها الغائرة. هذا الاحتلال جعلها وحيدة في هذا العالم، أفقدها الفرح الناعم في كفيها وسرق منها ضحكة أختها الرقيقة.

الطبيبة ولاء أبو مصطفى، طبيبة الطوارئ في مستشفى الإندونيسي التي اكتشفت بفزع وصول خالتها وزوجها وابنهما للمستشفى ضمن عشرات المصابين في غارة صهيونية. إذ وصلت خالتها شهيدة، وابنها أشلاء ملفوفة في قطعة قماش، بينهما توفى الزوج بعد فترة وجيزة.

عانت الدكتورة ولاء من الصدمة كون خالتها كانت قريبة منها كأمها، لكنها تتعهد باستمرار تواجدها على رأس عملها وتقديم ما يمكنها تقديمه من تطبيب لأهلنا هناك.

أذكر للآن المقطع المصور لطبيبة تركض في أرجاء مستشفى الشفاء أثناء عملها على إسعاف المصابين. حيث قالت في كلمات مؤثرة مليئة بوجع الفقد والصدمة: "زوجي استشهد يا جماعة، أنا أعمل هنا مع المصابين، أعالج المرضى والمصابين لكن زوجي استشهد". وأكملت كلامها موجهة الحديث لابنتهما "استشهد والدك"، وهي تعانقها وترفع علامة النصر التي لطالما استعملناها كفلسطينيين في كل ظروف حياتنا.

حرب المستشفيات: الحرب على مقومات الحياة الأساسية

رانيا سرسك.jpg

هذه الحرب التي لم تقف عند أي حقوق أو قوانين إنسانية أو دولية أوحقوقية، وصل بها الإجرام محاصرةَ المستشفيات الغزية وقصفها واعتقال من فيها من كوادر طبية أو مرضى أو نازحين.سرقت منهم الطعام والماء وحاصرتهم فمنعت عنهم أي تزود أساسي للحياة من طعام وغذاء.

وفي هذه الدروب الوعرة التي عايشها سكّان المسشتفيات ونازحيها لم يكن من الطبيبات والمسعفات والممرضات وكافة الكادر الطبي النسائي على وجه الخصوص، إلا أن يحاولن جمع الطحين وعجبنه وخبزه بطريقة بدائية، وتقديم الأكل لكافة المتواجدين في المستشفى.

ساعدن على توزيع الأكل المقنن كواقع مفروضٍ من الحصار الشديد. واقع لم يتخيله أي بشر ولم يحدث في سابق التاريخ، ومع كل هذا قدمنّ نساء الكادر الطبي كل ما يمكنهنّ لتعزيز صمود أهلنا النازحين ومرضاهم وأهلهم وزملاءهم.

بالإضافة إلى الدعم النفسي الكبير الذي حاولن تقديمه لكل المرضى وأهاليهم وأطفالهم تحديدًا، كانت الواحدة منهنّ تخفي كل مخاوفها وتهدئ من روع الجرحى وأهاليهم.

تلك القلوب النقية القوية ومع كل ما عانينه من صدمات في الأهل والزملاء والوطن، إلا أنهنّ سطرنّ أروع الأمثلة في التضحية والثبات. تقبل الله منهم وزادهن رحمة وقوة، وأنهى الله هذه الحرب الظالمة عاجلًا غير آجل.