بنفسج

التطريز الفلسطيني: هُوية ثقافية تُصّدِر أيقونات المقاومة

الأربعاء 24 يناير

إنه الشهر الثالث، أو بلغة أهل غزة إنه اليوم الـ 108 للحرب الدامية التي يشنها الاحتلال الصهيوني على كل ما هو "غزي". فلم يبقَ في سماء تلك المدينة طيرٌ ولم يبق على أرضها شجرة إلّا وقد كانوا شهودًا على المجازر التي يرتكبها الاحتلال بشكل همجي، ظنًّا منه أنه سينجح في انتزاع الحياة من قلوب الصامدين في المدينة، لكن الحقيقة التي يجهلها هذا الكيان السارق أن غزة هي عنقاء هذا الزمن، تعود للحياة بعد كل محرقة، تسقي الأرض من دماء الشهداء، لترفع في السماء علمًا للبقاء، وتنتزع حقّها في حريتها بالمقاومة والصمود والثبات.

ليست الرصاصة فقط من تقاوم المحتل في فلسطين، فمنذ أن بدأت الحرب على غزة شهدنا أنواع مقاومة بسلاح مختلف، بدءًا من المقاومة بالصمود، والمقاومة بالإعلام، ووصولًا إلى المقاومة بالفن. والحقيقة أن هذا الأمر ليس حديثًا فالفن المقاوم أو المقاومة الصامتة كما يعرفها الكثيرون، قد وُجدتْ منذ انطلاقة الحجر الأول في وجه المحتل، عندما حوّلت نسوة فلسطين معاني الصمود وأحقية العودة إلى مدلولات تطريزية نقشنها على الثوب الفلسطيني، ليصبح أيقونة خالدة في تاريخ التراث والنضال.

وفي ماهية الفن المُقاوم، فقد تعددت واختلفت أنواع الأيقونات التشكيلية التي برزت خلال الحرب الأخيرة على قطاع غزة، فقد فاق إبداعُ الفنانيين المقاومين حدود المدينة، ليصبحَ الأمر مرتبطًا بكل من آمن بحق الفلسطيني في انتزاع الحياة والعيش بكرامة. فكيف يكون الفن المقاوم؟

التطريز الفلسطيني: تراث وفن مقاوم 

لا سمح الله.jpg

هذه رنا زلابية، الفنانة التي اختارتْ إبرتها وريشتها لتلوّح بعناوين الثبات والصمود أمام العالم، نشميةٌ أردنية بقلب فلسطيني وريشة حُرّة.لم تكن بداية الفن المقاوم بالنسبة لرنا بعد أحداث السابع من أكتوبر، بل إنّ إيمانها بعدالة القضية الفلسطينية بدأ منذ طفولتها في حب التطريز الفلسطيني ودراسة مدلولاته وربطه بأهمية تعدد سبل ووسائل المقاومة.

 وهذا ما دفعها للجلوس طالبةً مجتهدةً أمام زميلتها عام 2008 لتتعلم التطريز، غرزةً غرزة، لتنقش في النهاية لوحات تطريزية مختلفة، تعبّر فيها عن معان تراثية متنوعة فبدأت بتطريز الكوفية الفلسطينية، ولوحة كبيرة لطقوس العرس الفلسطيني في البلاد، ونقشتْ في لوحة أخرى لأسماء الأًصلية للمدن الفلسطينية، وطرّزت عددًا كبيرًا من الجداريات التي تُعبّر عن أيقونات ورموز فلسطينية عديدة.

تصريح صالح الجعفراوي.jpg

لم تكتف رنا بتعلُّم التطريز فحسب، بل أبدعتْ في مجالات فنية أكثر، خاصةً بعد عودتها من الإمارات إلى مسقط رأسها عمان، لتتعلم فنونًا أخرى داعمةً لموهبتها الأولى، فكان الطريق أمامها أن لجأت إلى البحث عن كيفية ربط التطريز بالتطورات التكنولوجية، فتعلّمت استخدام عدد من برامج الرسم والتحرير لتحويل الصور العادية إلى بترون وتطريزها على طريقة "البوب أرت" باللونين الأسود والرمادي.

ماذا عن حرب غزة؟

تطريز تعيطش روح الروح.jpg

تقول رنا لـ "بنفسج": " هذه الحرب أثارتْ في داخلي حزنًا ووجعًا لم أستطعْ التعبير عنه إلّا عندما اتخذتُ قرار "المقاومة". لقد آمنتُ أنّ دوري أكبر من الجلوس أمام التلفاز وقلبي يتمزّق قهرًا على إخوتي في غزة، ومن هنا بدأتُ فكرةً مختلفة."

هذه الحرب كانت حُبلى بالقصص، فكلُّ روح داخل غزة لها قصة ووجع يستحق أن يُمنح خلودًا فنيًا. تتابع رنا حديثها: "كلماتٌ وأصوات وصور بقيتْ عالقة في قلبي وعقلي، فصوتُ الصحفي صالح الجعفراوي وهو يمسك كاميرا هاتفه يصرخ مستنجدًا العالم، حرّك بداخلي بركانًا وثورة، وصوت الرجل الوقور وهو يستقبل القبلة بعد أن تلقّى نبأ استشهاد أبنائه وصوتُه يصدح في المشفى أمام الرجال الباكيين : تعيطش أنت زلمة"، وتنهيدة جد ريم الصغيرة "روح الروح"، وصمود الجبل وائل الدحدوح وهو ينقل خبر استشهاد عائلته. كلُّ هذه القصص والأصوات جعلتني أفكر، كيف لي أن أقاوم برفقة هؤلاء الشرفاء؟"

أيقونات المقاومة الفلسطينية

تطريز ولعت.jpg

قررتْ رنا أن تمنح تلك الأيقونات خلودًا فنيًّا يُنقش بحبر يليق بعزيمتهم، فرفعت إبرتها كرصاصة حية، واحتضنتْ قماشها كما يحتضن الفلسطيني أرضه، وطرّزت لوحات فنية لعدد كبير من الشخصيات الغزية، وعرضتها على صفحتها الشخصية على منصة "انستغرام"، لتجد ردود فعل واسعة تعبّر عن إعجابها وتأثُّرها بهذا الفن، ودعمها للطريق الذي اختارته رنا لتكون صوتًا حُرًا من أصوات القضية الفلسطينية.

لم تكتف رنا بتطريز الشخصيات المؤثرة فقط، بل إنها حرصت على نقش المدلولات التي اشتهرت في الحرب، " المثلت الأحمر المقلوب مثلًا، وبداخله قوله تعالى : "وما رميت إذ رميت ولكنّ الله رمى"، كدلالة على المثلث الذي يستخدمه المقاومون داخل المعركة وهم يشيرون إلى الجندي الصهيوني قبل مقتله. ولوحة أخرى لمقاوم يركض نحو أصحابه معبّرًا عن فرحته بعد تفجير الدبابة وهو يقول : "ولّعت".

تطريز ومارميت إذ رميت ولكن الله رمى.jpg

نقشتْ رنا بإبرة المقاومة كلمات أثرت بداخلها "تعيطش، أنا راجع، مع السلامة يابا، روح الروح، وإنه لجهادٌ نصرٌ أو استشهاد". كلّها كلمات تحولت من حروف ذات صدى صوتي إلى نقش احتضنته إبرة وخيوط لتجسّد شيئًا من الوجع الذي يعيشه الفلسطيني وهو يضحّي بروحه وروح روحه من فلذات أكباده ليبقى صامدًا على هذه الأرض.

لم تضع الحرب أوزارها في غزة، لكنّ الحقيقة التي أصبحت يقينًا في داخل كل مؤمن بالقضية، أن هذه الحرب قد غيّرت شيئًا في داخله أكبر من أن يشرَح بلغة وحروف، وهذا ما جعل الأحرار يبدعون في سبل المقاومة والمساندة لتتحول القضية الفسطينية إلى قضية تخصّ كل حرّ شريف في العالم، مهما اختلف عرقه وجنسه وفكره.