كانت أولى كلماتها الشهادة حين فزعت من نومها على حمم اللهب المشتعلة من حولها، ودوي الانفجار الذي هز الأرض كأنه قلب الكون نفسه، احتضنت طفلتها ملاك، التي فتحت عينيها فجأة، تبكي بلا وعي، بينما بقيت هي جالسة في صمت مرعب، عاجزة عن استيعاب الرعب الذي أحاط بها. جاءها شقيقها أخيرًا، أخذها نحو بيت العائلة الذي لا يبعد سوى أمتار قليلة عن منزلها، وبدأ يجلب بناتها واحدة تلو الأخرى، أربعة أجساد ممددة بلا حراك، فانعكس وجهها الذي طالته الحروق على المرآة، ليعلن جسدها استسلامه، ويفقد توازنه.
كانت تردد أسماء بناتها وهي نصف غائبة عن الوعي: مريم، ملاك، مرام، جوري. رفعت عينيها لتجد زوجها فاقد الوعي، ومريم مصابة برأسها، والبقية ممددات بلا حراك، مغمى عليهن، صمت ثقيل يخيم على المكان، والواقع كله أصبح ألمًا واحدًا يطوق قلبها، وكأن اللحظة توقفت عند حد الفقد والرعب.
نحكي هنا مع فاطمة البلتاجي، أم الشهيدات مريم وملاك ومرام، والتي نجت لها فقط ابنتها الوحيدة جوري. تروي عن فقدان بناتها والألم الممتد الذي يثقل قلبها، وعن لحظات وداعهن المؤلمة التي ما زالت تحفر في ذاكرتها كل يوم، تاركة خلفها صمتًا يصرخ بالحزن والأسى.
يوم أن سقط اللهب

في 6 نوفمبر 2023، استُهدف منزل فاطمة لتعرف معنى الخوف الحقيقي الذي تشهده لأول مرة في حياتها، تقول: "كانت لحظات موجعة، أنا مصابة وزوجي، وبناتي أمامي ممدات أرى مريم مصابة برأسها وحالتها خطيرة جدًا، ومرام إصابتها بسيطة، وجوري وملاك طمأننا الأطباء أنهما بخير، لكن سرعان ما تدهورت حالة ملاك لتفقد حياتها بين أحضاني، لتُنزع مني لتواري الثرى في مقبرة البطش".
لم يُسمح لفاطمة أن تحزن على ابنتها، التي كانت مسك الختام وجاءت فجأة، إذ اكتشفت حملها بها بعد أربعة أشهر، فكان هذا الحمل الأجمل على الإطلاق. تقول: "مجيئها في يوليو 2021 جلب السرور إلى قلبي، وسماها جدها لتكون ملاكنا الحارس".
ينما كانت تستقبل كلمات المواساة باستشهاد آخر العنقود ملاك، كانت مريم ابنتها الأخرى في العناية المركزة، بقي معها خالها يرعاها، اقتُحم مشفى الشفاء آنذاك، لتستشهد وقتها ولم يستطع خالها دفنها في باحات المشفى فورًا، لأن جنود الاحتلال يطلقون النار على كل من يتحرك، فبقيت 4 أيام بين يديه، إلى أن تمكن من دفنها في ساحة المشفى، فلم تحظ أمها بوداع أخير تعانقها فيه.
اقرأ أيضًا: وجع مكتمل ممتد: عن الرحيل التدريجي لأبنائنا الأربعة
تضيف: "تلقيت خبر استشهادها بعد يوم واحد بسبب فصل الإرسال عن قطاع غزة، لأتحمل مسؤولية جديدة كيف سأخبر بناتي مرام وجوري عن فقدان شقيقاتهن معًا، لأحدثهن عن الجنة ونعيمها، فأواسي نفسي معهن، دفنت الحزن في قلبي لأجلهن".
كانت فاطمة تعد الأيام لتقف أمام قبر ابنتها المؤقت، على أمل نقله لاحقًا إلى مقبرة رسمية باسمها وتاريخها. لكن الاحتلال نبش ساحة الشفاء وعبث بقبورها، ليُفقد أثر مريم بالكامل. حرمت فاطمة من جثمان ابنتها، ولا تزال لا تعرف حتى اليوم مكانه. تقول بحرقة: "انحرق قلبي حرق.. كيف جثمان بنتي مفقود، بدي بنتي؟".
صدمة ثانية وفقد جديد

في عام 2025، وتحديدًا يوم عيد الفطر المبارك، كانت الصغيرة مرام تلعب في ساحة المدرسة، على لعبة وُضعت للأطفال للاحتفال بالعيد، فجأة، قُصفت المدرسة، وتطايرت الشظايا في كل اتجاه، لتخترق جسد مرام الصغير، وتستشهد على الفور.
تروي أمها بألم: "كنت عالقة تحت الأنقاض، مصابة، أنتظر أن ينتشلني أحد، وحين أنقذوني بدأت أبحث عن بناتي مرام وجوري، قالوا لي إن مرام أُصيبت.. وقلبي كان يخبرني أن بها شيئًا، جاءتني جدتها تحمل الخبر الأليم، فلم أصدق".
اقرأ أيضًا: عروس قُتلت في الميدان.. الصحافية رجاء حسونة
ظلت فاطمة في حالة ذهول، تُقنع نفسها بأن مرام ستعود راكضة إليها بضحكتها التي تملأ المكان، لكن المشهد تبدد حين رأتها من بعيد ممددة أمام عمتها وعمها، كأن الزمن تجمد حولها، حاولت قدماها أن تتقدما، تراجعت، ثم قاومت حتى وصلت إليها، لتضمها إلى صدرها وكأنها تحاول أن تعيد إليها الحياة. تضيف بحرقة: "تمنيت أن أموت وأدفن معها، هذا الحزن أكبر مني.. ثلاث بنات فقدتهن تباعًا".
بعد فقدان مرام، انطفأ قلب فاطمة تمامًا، تذكرها وهي تُردد: "بس أكبر بدي أصير دكتورة حاسوب زي عمتو". فتبكي الأم أكثر كلما داهمتها الذكريات، كانت الطفلة الصغيرة سندًا لها في أيام النزوح، تجلب الماء وتقف في طوابير المساعدات، حتى أطلقت عليها والدتها لقب "فتاة المهمات الصعبة". فكان غيابها ضربة قاصمة لأم تعلقت بها بعد أن فقدت بناتها الشهيدات.
مؤنسات العائلة

كن البنات حبيبات العائلة، ورفيقات والدهن يحلقن حوله كالفراشات يوم إجازته، تقول فاطمة لبنفسج: "كان والدهم بمثابة حامي الحمى لأنني كنت حازمة معهن فكن يتقافزن إليه ليشتكينني أو ليطلبن منه ما رفضته أنا وكان لا يخيب أملهن أبدًا".
لم يتبق لفاطمة من بيتها سوى فستان لمريم أنقذته، ثم فقدته تحت أنقاض منزل عائلتها، وحقيبة لمرام ما زالت تحتفظ بها من ذكراها، تضيف واصفة بناتها: "مريم كانت تحب انتقاء الفساتين والأساور والحلي وتبتكر في تمشيطات شعرها ولونها المفضل هو الوردي، على عكسها كانت مرام فقد كانت تحب ملابس الكاجوال وتسريحتها الوحيدة والمفضلة هي ذيل الفرس ولونها المفضل هو الأحمر، أما ملاك فقد كانت تحب ترك شعرها حرًا".
اقرأ أيضًا: فداء صبيح: وحيدتي بعد 7 سنوات.. لم أجد لها كفنًا
تكمل: "عند استشهاد مريم وملاك أصيبت أخواتها بالصدمة وأولاد أخوالهم رحمهم الله لأنها كانت لحظة الفقد الأولى لهم فكان صعبًا عليهم إدراك الفقد وما يعنيه، كانت مريم ابنة صديقتي رحمهما الله تسألني دائما عن مريم ابنتي في كل مرة تراني فيها وتقول لي الله يرحمها لكن ما لبثت إلا أنها التحقت بها بعد فترة".
تردف فاطمة بصوت منهك: "عند استشهاد مرام كان الفقد أكبر لأنها كانت بشخصيتها تأسر قلوب الحضور، كان صديقها المقرب يسري ابن خالها وكان الناجي الوحيد من أهله، بعد استشهادها ظل يخبرني أنه لا يصدق رحيل مرام وأنه يشتاقها إلى أن لحق بها بعد فترة قصيرة جدًا".
تعيش فاطمة مع ألم الفقد، وصغيرتها جوري تبكي كل ليلة، وحينما تصلي تبكي بحرقة وتردد: "اشتقت لخواتي بدي خواتي". فلا تملك أمها سوى بث كلمات الصبر والأمل في قلب الصغيرة التي تكبر على ألم الفقد.

