بنفسج

أمومة مبتورة: غزيات يٌقاومن البتر بأمومتهن

الخميس 04 ديسمبر

النساء المصابات بإصابة البتر في غزة
النساء المصابات بإصابة البتر في غزة

للأمهات الغزّيات نصيبٌ وافرٌ من الوجع في حربٍ إباديّةٍ امتدّت نحو عامين؛ حربٍ قدّمن فيها ما لا تتحمّله نساءُ العالم من فقد: زوجًا، وأبناءً، وأهلًا، ومالًا، وبيتًا. ولم يتوقّف الألم عند هذا الحد، بل طال أجسادهنّ أيضًا، فكان ابتلاؤهنّ عظيمًا، واختبار أمومتهنّ أشدّ قسوةً وأعمق أثرًا، ليواجهن الإعاقة بقلبٍ ثابتٍ بالإيمان، وجرحٍ يختبر صلابة الروح قبل الجسد. في بنفسج التقينا نماذج من أمهات غزة، خلّفت الحرب فيهن جرحًا غائرًا بعدما فقدن الجسد والولد، وأعددنا التقرير التالي.

إيمان غبّون… ضربةٌ واحدةٌ أفقدتها جنينها وطفليها 

النساء المصابات

في خيمةٍ مهترئة جنوب قطاع غزة تعيش إيمان غبون، بعدما دمر الاحتلال الإسرائيلي منزلها مع بداية حرب الإبادة، ولم يكتف بذلك فحسب وإنما لاحقها في نزوحها وأصاب جسدها وأفقدها جنينها وطفليها. تقول عن لحظة الإصابة: "بعدما تم تدمير منزلي واشتداد المجاعة على غزة اضطررت للهروب بأطفالي من شمال القطاع لجنوبه، لكن في طريقي للجنوب أصابتني قذيفة إسرائيلية أفقدتني الوعي لثلاثة أيام، ثم استيقظت لأجد نفسي فقدت جنيني وطفلي، وأُصبت بتفتت حاد في قدمي اليسرى جعلها معرضة للبتر بنسبة 70‎%‎، بالإضافة لتفتت في مفصل اليد اليسرى، إلى جانب فقداني لنصف قدرتي على السمع".

أمضت غبون رحلة علاج بدأت من مستشفى الشفاء بغزة وأجريت لها عدة عمليات جراحية قبل أن تُنقل إلى المستشفى الأوروبي شمال القطاع على وقع الحصار الذي تعرض له مستشفى الشفاء، نُقلت على كرسي متحرك دون مراعاة وضعها الصحي الخاص، ما فاقم من حالتها الصحية وأدى إلى كسور إضافية في جسدها. 

تقول إيمان: "وصلت المستشفى الأوروبي واستقبلني حينها وفد طبي أجنبي، أجروا عملية جراحية لتركيب جهاز لتثبيت العظام، وكان من المفترض أن يستمر علاجي لكن إغلاق المعابر وعودة الوفد الطبي حال دون إتمامه، وأحتاج الآن إلى ضرورة السفر لإتمام العلاج". 


اقرأ أيضًا: وجع مكتمل ممتد: عن الرحيل التدريجي لأبنائنا الأربعة


بعد هذه الرحلة العلاجية رُزقت إيمان بطفلة تكون ونسًا لها ولزوجها وطفلها الناجي، لكن إصابتها حالت دون أن تمارس أمومتها بشكلها الطبيعي، تقول: "تبكي طفلتي ولا تحتاج مني سوى أن أحضنها ولكن لا أستطيع، فـ التفتت الذي أصاب يدي جعلني عاجزة حتى عن احتضانها، وعن تسريح شعرها وإطعامها". 

أما عن طفلها الأكبر الناجي من بين إخوته، فتقول عنه : "عاش ابني وقع صدمة كبيرة بعدما شاهد إخوته شهداء، والآن لا يقبل أن يبتعد عني خوفًا أن أحتاج شيئًا، لذلك يرفض اللعب ويبقى بجواري ليساعدني فأصبح مسؤولًا عني بدلًا أن أكون مسئولة عنه". لا تطلب إيمان غبون شيئًا اليوم، سوى أن يُسمح لها بالسفر لاستكمال علاجها علّها تستطيع احتضان أطفالها.

نيبال الهسي... بترت الحرب يديها وانتزعت طفلتها من حضنها 

IMG-20251203-WA0082.jpg

نيبال الهسي 25 عامًا من مخيم جباليا شمال القطاع، لم تكن تتخيل يومًا أن حياتها المفعمة بالنشاط، ستتحول بين ليلة وضحاها إلى عجزٍ أفقدها أبسط أشكال حياتها. تقول : "أنا الابنة المدللة لعائلة تضم تسعة إخوة وأختين كنت أصغرهم، التحقت بجامعة الأزهر قسم ترجمة لغة إنجليزية بعدما حصلت على معدل 94% في الثانوية العامة".

 تكمل: "في عامي الجامعي الثالث تزوجت، ورُزقت لاحقًا بطفلتي التي لم تنعم بالحياة الطبيعية سوى شهرًا واحدًا قبل أن تندلع الحرب في أكتوبر 2023، ليتبدل حالنا من حياة مُستقرة هادئة، لحياة مليئة بالوجع بكل تفاصيله". 

"في السابع من أكتوبر، وبينما كنت أجهز الطعام، باغتتنا القذائف. احتضنت صغيرتي وجلسنا في زاوية المكان، لكن قذيفة أصابتني مباشرة، ففقدتُ يديّ الاثنتين من تحت الكوع، وتعرضت لإصابة بالغة في القدم، وحروق من الدرجة الثانية والثالثة، بالإضافة لنزيف في الكبد".

إصابة نيبال وما تركته من جُرح غائر في جسدها وفي قلبها مع ابتعاد طفلتها عنها، جعلها تشعر باليأس الشديد، خاصة بعدما تخلى عنها زوجها أيضًا، هذا الأمر الذي فاقم من حالتها النفسية يومًا بعد آخر لدرجة جعلتها ترفض تقبل الإصابة بشكل تام، وترفض محاولات التحدي ومعايشة الواقع الجديد الذي فُرض عليها، وما زالت بانتظار العلاج الذي لربما يمكنها من التعافي شيئًا فشيئًا. 

خضعت لعمليات كثيرة، لكن الجرح الأعمق كان ما أصاب أمومتها: "الإصابة سرقت أمومتي وكل حياتي. طفلتي كانت في بداية عامها الثاني حين أُصبت. لم أعد أستطيع إطعامها، أو حملها، أو حتى تسريح شعرها".

وتضيف بحزن شديد: "كنتُ أحاول اللعب معها، لكنها كانت تخاف من شكل يديّ وتبتعد. وكانت نظراتها للأطفال حين تحملهم أمهاتهم تقتلني… وكأنها تتساءل: ليش ماما ما بتحملني؟".

إصابة نيبال وما تركته من جُرح غائر في جسدها وفي قلبها مع ابتعاد طفلتها عنها، جعلها تشعر باليأس الشديد، خاصة بعدما تخلى عنها زوجها أيضًا، هذا الأمر الذي فاقم من حالتها النفسية يومًا بعد آخر لدرجة جعلتها ترفض تقبل الإصابة بشكل تام، وترفض محاولات التحدي ومعايشة الواقع الجديد الذي فُرض عليها، وما زالت بانتظار العلاج الذي لربما يمكنها من التعافي شيئًا فشيئًا. 

الولاء سلمان.. لحظة مزقت الطريق 

IMG-20251203-WA0088.jpg

في وسط بيت دافئ بالحب كانت تعيش الولاء سلمن برفقة زوجها وطفلها حياة مستقرة هادئة قبل أن تندلع هذه الحرب المجنونة التي لم تترك شيئًا على حاله، تمامًا كحال بيتها الدافئ الذي أصبح عبارة عن كومة من ركام، ولم يقتصر الأمر إلى هذا الحد وإنما أصابتها وأصابت طفلها معها أيضًا، إذ أُصيبت إصابة شديدة في القدم، أفقدتها مشط قدمها وأربعة من أصابعها. تقول: "أُصبت بغارة إسرائيلية استهدفتنا مباشرة، فبُترت أربعة من أصابع قدمي، بالإضافة إلى مشط القدم. هذه الإصابة أثرت على حياتي كثيرًا، وجعلتني أعجز عن الوقوف والمشي بشكل طبيعي".

وتضيف عن طفلها الذي يعيش معها هذا الوجع : "ابني حينما يرى قدمي المصابة يُقبلها ويقول ماما واوا".  خضعت الولاء لعدة عمليات جراحية، وما زالت تنتظر دورها للسفر لاستكمال العلاج خارج القطاع وفق توصيات الأطباء: "أواجه صعوبات كثيرة، أهمها حاجتي الماسة للسفر. كما أن العلاج داخل غزة إما غير متوفر، أو منتهي الصلاحية، أو باهظ الثمن".


اقرأ أيضًا: "جثمان مجهول الهوية".. لو أن نسمة لم ترحل


تحاول الولاء القيام بمهامها المنزلية بقدر استطاعتها: "أقوم بأعمالي بشكل مجزأ كي لا تتفاقم إصابتي، وكثيرًا ما أطلب المساعدة من زوجي الذي يشكل سندًا قويًا لي". وتحظى الولاء بدعم عائلي يخفف عنها مشقات يومها، من زوج مُحبّ، وطفل يملؤه الحنان، وأسرة تمدها بالقوة والنور وسط هذه الظلام.  

رغم ما حملته الحرب من جراحٍ فادحة على أجساد الأمهات الغزّيات وأرواحهن، تظل صورهنّ شاهدًا حيًّا على صلابة إنسانية لا تنكسر. بين خيمةٍ مهترئة وكرسيٍّ متحرك وأطرافٍ غابت إلى غير رجعة، تواصل الأمهات المصابات حياتهن بما تبقى من قدرة، وبما يفيض عن القلب من أمومةٍ تصرّ على البقاء.
فليست قصصهنّ سوى نماذج قليلة من مئات النساء اللواتي يقفن اليوم عند حدود الألم، لكنهنّ أيضًا يقفن عند عتبات الرجاء، يطالبن بحقٍّ بسيط: علاج يرمم ما يمكن ترميمه، وحياة آمنة تمنحهنّ فرصة لاحتضان أطفالهنّ من جديد.