بنفسج

وجع مكتمل ممتد: عن الرحيل التدريجي لأبنائنا الأربعة

الجمعة 21 نوفمبر

عدد الأطفال الشهداء في غزة
عدد الأطفال الشهداء في غزة

هل يمكن للبيوت التي كانت تنبض بضحكات الأطفال أن تتحوّل، بين ليلة وضحاها، إلى جدران يثقلها الصمت؟ وهل يُعقل أن تتحوّل حياة أب وأم كانا يكرّسان قلبيهما لتربية صغارهما، إلى أيام يتمنيان فيها لو أنّ صوتًا واحدًا فقط يعود ليقول: “بابا، بدي شيكل” أو “ماما، اعمليلنا كيكة”، لكن لا أطفال تُوضع في أكُفّهم النقود، ولا كعكات ميلاد تزينها الضحكات بعد اليوم.

شيرين، وليد، مرام، وتوفيق… أربعة أطفال خطفهم الموت من أحضان والديهم، سرقهم في ثلاث ضربات موجعة؛ ضربات لم تترك جرحًا فحسب، بل خلّفت فراغًا ينهش القلوب وصدى أصواتٍ أُسكتت قبل أوانها.

وليد… الغائب الذي لم يتذوّق وجبته الأخيرة

IMG-20251120-WA0011.jpg

بدأت أولى الضربات تصيب وليد، الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة من عمره، نصفه قضاه مريضًا يصارع الحياة بعد أن أصابه السرطان في عامه الثاني. يقول والده، رائد أبو يوسف: “اكتشفنا مرض وليد في منتصف عامه الثاني، ومنذ ذلك الحين شرعنا في رحلة علاجية بين غزة ونابلس والأردن. نجحت الرحلة بنسبة 70% كما أخبرنا الأطباء، لكن قدر الله كان أقوى. فبعد عودتنا لغزة، عاد المرض ينهش جسده الصغير، الذي لم يعد يقوى على المواجهة.”

ويردف وهو يستحضر ذكريات اليوم الذي غادر فيه وليد الحياة: “في ثالث أيام عيد الأضحى، وبينما كان يرقد في المستشفى، اتصل بي صباحًا يطلب وجبة كباب وكوب براد. جهزت ما طلب، لكنه رحل قبل أن يتذوقها. وما زالت تلك الغصة تأكل قلبي حتى اليوم.


اقرأ أيضًا: غياب بلا قبر: نساء في غزة يفتقدن جثامين أحبتهن


تقول والدته، سحر أبو يوسف: “أخبرني الطبيب بعد انتهاء علاجه في الأردن أنه إذا أتم وليد عامه الخامس دون أن يعود له المرض، يمكن القول إنه شُفي نهائيًا. لكن الموت غدر بنا قبل عيد ميلاده بثلاثة أيام، دون أن يمنحني فرصة لأراه يكبر كما حلمت.”

كانت تلك الصدمة المفجعة التي أوجعت قلب رائد وسحر، لكنها قربتهما أكثر إلى أطفالهما الثلاثة. يحاولان بمحبتهما أن يداويا ألمهم، ولم يعلمان حينها أنها الصدمة الأولى، التي سيتبعها وجع أكبر وأشد.

شيرين ومرام… رحيل المؤنسات

IMG-20251120-WA0012.jpg

لا يمكن للأم أن تنسى طفلها الأول الذي وهبها شعور الأمومة، لعثمة حروفه وهو ينطق كلمة “ماما”، خطواته الأولى وعثراته، فكيف إن كان هذا الطفل “شيرين” الصغيرة الهادئة التي لها في قلب والديها مكانة لا ينازعها فيها أحد؟ تقول سحر: “شيرين، الفرحة الأولى، كانت بنتي وصاحبتي، كانت بتحلم تكون دكتورة أسنان وتعالج أسنان أبوها”، بينما يستذكرها والدها قائلاً: “كنت لما بشوف شيرين كيف بتكبر قدامي، فأتخيلها وأنا بزفها عروس وبغنيلها كبرت البنوت… كبرت ست الكل.”

أما عن شقيقتها مرام التي لا تشبهها في الهدوء مطلقًا، يشبّهها والدها بالكرزة لحلاوتها وشقاوتها، بينما والدتها تُلقبها بالعبقرية لشدة ذكائها وتفوقها، إذ كانت دائمًا في المراتب الأولى على مستوى المدرسة، بل والمحافظة. تقول سحر: “مع عودة الطلبة للتعليم الإلكتروني، فاجأني كلام أستاذ مرام الذي أشاد بتفوقها في غيابها حينما قال إن أكثر ما يفتقده مع عودة الطلبة هو وجود طفلة بذكاء وعبقرية مرام”.

وأضافت: “هذا الأمر أشعرني بالفخر والحزن معًا، تمامًا كالاستفسار الذي تلقيناه من المدرسة عن غياب الصغيرتين عن الامتحانات، فأجبتهم: ‘لقد نجحوا في اختبار الحياة بأكمله’.”


اقرأ أيضًا: في ذكرى الوداع الأول للعائلة.. وداع آخر وفقد أثقل


في التاسع من رمضان من العام الأول في الحرب، التاريخ الذي يحمل وجعًا مضاعفًا لعائلة رائد وسحر، حين انطفأت الضحكات وغابت المؤنسات، يستذكر رائد هذا اليوم: “زارنا مصفف الشعر صباحًا، ولانقطاع الكهرباء عن غزة طيلة الحرب، طلبت الصغيرات تصفيف شعرهن بالمجفف الكهربائي، وكان لهن ما طلبن، قمنا بتشغيل الماتور على الغاز، وسرح المصفف شعر الصغيرات وكأنهن ذاهبات إلى فرح.” وأضاف: “شعرت وكأن صغيرتاي تطيران فرحًا، تارة تأخذاني ووالدتهن بالأحضان وتارة يداعبن شقيقهن بالضحكات، ولم أكن أعلم حينها أنها طريقتهن في الوداع.”

أما سحر، التي كان يومها مليئًا بصغيرتيها، فتستذكر يوم وداعهن قائلة: “كن في ذلك اليوم طائرين حولي، طلبن الذهاب إلى السوق وأنا من خوفي عليهم خلال فترة الحرب لم أسمح لهم بالخروج، واليوم الأول والأخير كان هذا المشوار.”

وتضيف: “شيرين كان معها فلوس، أعطتني إياها وقالت: ‘بدي أغسل إيديا وأرجع آخدهم’، وعندما عدت وجدتهم قد ذهبوا، وضلّت فلوسها في يدي.” وما هي إلا لحظات حتى كانت الصدمة، استهداف في منتصف سوق النصيرات أودى بحياة الصغيرتين معًا قبل آذان المغرب بدقائق، وما كان من والدهما الذي تحسس شعرهما المُصفف الملطخ بدمائهن إلا أن يؤدي ركعتي شكر وحمد ربه على ما أصابه.

توفيق… العودة من الموت إلى الموت

IMG-20251120-WA0010.jpg

بعد رحيل الصغيرتين، لم يتبقَ من عائلة رائد وسحر سوى صغيرهم توفيق، الطفل الذي كَبُر على معنى الفقد إذ تجرعه في أشقاء قلبه واحدًا تلو الآخر. حاول والداه أن يعوضاه عمّا فقد فأغدقوا عليه حبهم واهتمامهم، فأصبح صديق والده الذي يجاوره ساعات عزلته في بيته، وحبيب أمه الذي يساعدها على صِغر سنه، ولكن امتحان الله لهما لم ينته، فأصابهما هذه المرة في مقتل بعدما امتحنهم الامتحان الأكبر، بطفلهما الصغير الوحيد.

الثامن من يونيو، التاريخ الذي يحفظه سكان قطاع غزة جيدًا، وتحديدًا مخيم النصيرات، بعدما باغت جيش الاحتلال المخيم متخفياً داخل شاحنة مدنية يعتليها الكثير من الأغطية والعتاد المنزلي، في محاولة للتخفي قبل أن يسانده الطيران بأنواعه المختلفة، أصابت الضربات البشر والحجر، وأودت بحياة 274 فلسطينيًا وأصابت المئات، من أجل تحرير أربعة من الجنود المحتجزين في عملية إسرائيلية وُصفت بالمُعقدة.

كان هذا اليوم شديد الخوف على قلوب سكان المخيم، فكيف بقلب توفيق الصغير الذي كان يلعب الكرة في فناء المنزل حينها؟ تصف والدته المشهد قائلة: “كان توفيق يلعب كرة حواليا، وفجأة صار ضربًا قويًا جدًا، أخذت توفيق وحاولت أخفيه بقربي، احتمينا بغرفة داخلية بعيدة عن واجهة البيت ولم نفهم ما يحدث، لكن كان كل اهتمامي أن لا يصيبه أذى.”


اقرأ أيضًا: إسلام مقداد: الموت زائر يومي لأمهات غزة


بينما يقول والده: “كنت خارج البيت وصار الضرب في كل مكان، حاولت العودة إلى بيتي لكن لم أستطع من شدة الحدث، اتصلت بزوجتي وكلمت توفيق: ‘دير بالك عحالك يا بابا’، رد عليّ: ‘أنا منيح يا بابا، إنت دير بالك عحالك’.”

أخذت سحر صغيرها في حضنها وأسندت رأسها نحو رأسه، حصنته بالقرآن والدعاء، وما استطاعت أن تذكره من شدة الخوف، وما هي إلا لحظات حتى تناثر الزجاج والشظايا حولهم إثر القصف المجاور. سمعت حينها صوت توفيق يردد كلمة “ماما”، فاطمأنت أنه بخير، تحسست وجهها فلامست الدم وظنت أنها أصيبت، فتقول:

“سمعت توفيق يحكيلي ‘ماما’ فاطمأنت أنه بخير، صرت أحس في دم على وجهي، اعتقدت أنني أصبت، وحكيت: المهم توفيق ما صارله شيء. لكن فجأة، ومن وسط عتمة القصف والغبرة، تسلل خيط نور، حتى الآن لا أعلم مصدره، هذا النور وجهني على رأس توفيق، فشاهدت إصابته وأدركت أنه دم توفيق، حملته وخرجت أركض، ولم أهتم لرصاص الكواد كابتر أو أي شيء حولي، كان كل اهتمامي توفيق وكيف أوصله للمشفى.

بينما كان والده يجهز له قبره الذي سينام فيه نومته الأبدية، جاءه اتصال بث فيه الأمل من جديد: “ابنك عايش”، وتقول سحر: “كان خبر استشهاد توفيق صدمة خلتني أفقد الوعي، لكن بعد دقائق حاولوا إيقاظي، سمعتهم يقولون: ‘توفيق رجع فاق’، ما استوعبت الخبر لكن كنت عارفة أنه ابني عنيد، حتى قدام الموت كان عنيد.”

وصلت سحر بطفلها إلى مستشفى العودة الذي اكتظ بمئات الشهداء والجرحى، وبمجرد أن رآه الأطباء، أبلغوها باستشهاده، لكن قلبها لم يسمح بتقبل الأمر، حيث أصرت أنه لا يزال يتنفس ولديه فرصة للنجاة. حمله الأقارب ونقلوه في الإسعاف إلى مستشفى شهداء الأقصى، الذي أبلغهم أيضًا أنه فارق الحياة ووضعوه فوق جثامين العشرات من الشهداء، لكن ما حدث أشبه بالمعجزة.

بينما كان والده يجهز له قبره الذي سينام فيه نومته الأبدية، جاءه اتصال بث فيه الأمل من جديد: “ابنك عايش”، وتقول سحر: “كان خبر استشهاد توفيق صدمة خلتني أفقد الوعي، لكن بعد دقائق حاولوا إيقاظي، سمعتهم يقولون: ‘توفيق رجع فاق’، ما استوعبت الخبر لكن كنت عارفة أنه ابني عنيد، حتى قدام الموت كان عنيد.”

هذا بالفعل ما حدث، فبعد أن وُضع توفيق فوق جثامين الشهداء في ساحة مستشفى شهداء الأقصى، رفع يده الصغيرة للأعلى في مشهد مهيب يذكره كل من شاهده، ووثقته العدسات من حوله. أخذه الأطباء على عجل إلى غرفة العمليات، ثم إلى قسم العناية المكثفة الذي مكث فيه أربعة أيام يصارع فيها لأجل البقاء.

زواري طيور الجنة

IMG-20251120-WA0010.jpg

لم يقوَ جسد توفيق الصغير على المقاومة أكثر من أربعة أيام، وكأن هذه الأيام كانت تمهيدًا للفقد الأكبر. يقول والده: “قبل أن يستشهد توفيق، ومن شدة تعبي، غفيت لدقائق على باب المشفى، في هذه الغفوة رأيت أولادي وأحبابي الذين رحلوا، زاروني بالحلم وكانوا جالسين في مكان كبير وجميل مزين بالشجر، كانوا سعداء جدًا. فسألت بناتي: مالكم يا بابا، مبسوطين كثير؟ ردت عليّ ابنتي الشهيدة شيرين: ‘يا بابا، نحنا بدنا نستقبل توفيق’. صحوني وقتها على خبر استشهاده.”

بينما كانت سحر تلازمه أمام غرفة العناية المكثفة، خرجت لدقائق لأداء صلاة العشاء، شعرت بأن شيئًا ثقيلًا أصاب قلبها، فانهارت بالبكاء على سجادة الصلاة، وما أن انتهت من الدعاء حتى جاؤها بخبر استشهاده، فأكملت صلاتها بركعتي شكر لله على ما أصابها من ابتلاء.

باستشهاد توفيق انطفأت آخر الشمعات، وأصبحت جدران البيت باردة على والديهم. بعد هذا اليوم، لن تستيقظ سحر على ضجيج ضحكاتهم، ولن يجد رائد رفيقًا يلعب معه الكرة كما كان يفعل، حيث ضج البيت بالصمت الذي يقتل القلب، ولم يتبقَ لهما سوى إيمانهما بجبر الله وعوضه.