في غزة، يصبح الفقد صمتًا يثقل الروح، وحضور الموت ممتدًا في الفراغ قبل أن يترك أثره على الجسد. حين يغيب الحبيب بلا قبر، يتحول الحزن إلى فضاء مفتوح بلا حدود، وتغدو الذاكرة الملاذ الوحيد لوداعٍ لم يُعطَ شكله. هنا لا يكفي البكاء، ولا يكتفي القلب بالاشتياق؛ فالصمت هو الرافد الوحيد الذي يحمل الألم، وتظل الروح معلقة بين الأمل واليأس.
على أنقاض منزلها في بلدة بيت حانون شمالي قطاع غزة، تجلس هناء الزعانين (39 عامًا) قرب خيمتها المؤقتة، تحدّق في قطعة معدنية صدئة تقول إنها ما تبقّى من خاتم زواجها. فقدت هناء زوجها محمود حين استهدفت طائرة حربية المنزل بصاروخٍ مباشرٍ في منتصف الليل، ولم يُعثر على جثمانه حتى اليوم.
تقول هناء: “كنا نائمين حين وقع الانفجار، وانقطع كل شيء من حولي. صرخت باسمه، لكن لم أسمع سوى أزيز النار وصوت الركام وهو ينهار فوقنا. منذ تلك الليلة وأنا أبحث عن أي أثرٍ له، حتى لو كانت قطعةً من ثوبه”. وتضيف بصوتٍ مبحوح: “في كل مرة يُعلن فيها عن العثور على جثامين جديدة، أذهب لأتأكد، لكن لم يكن بينهم أبدًا. أصعب ما في الأمر أن أُدرك أنني أرملة دون أن أعرف أين دُفن زوجي”.
الناجية الوحيدة

نـور الجمل (24 عامًا) من حيّ الشجاعية في مدينة غزة، كانت الناجية الوحيدة من عائلتها بعد قصفٍ استهدف منزلهم في منتصف الليل. تقول نـور: “كنا نائمين جميعًا، سمعت صفيرًا قصيرًا ثم انهار السقف فوقنا. حاولت الصراخ بأسماء إخوتي، لكن الصوت اختنق تحت الغبار”.
أُخرجت نور بعد ساعات من تحت الأنقاض وهي فاقدة الوعي، لتكتشف لاحقًا أن والديها وخمسة من إخوتها ما زالوا تحت الركام، ولم يُنتشلوا حتى اليوم.
تتابع بصوتٍ مرتجف: “قالوا لي إن البيت صار مقبرة، وإن أجسادهم ما زالت هناك… لم أودّعهم، ولا حتى رأيت وجوههم للمرة الأخيرة”. اليوم تعيش نـور في خيمة صغيرة، تضع أمامها صورة عائلية التُقطت قبل الحرب بأيام، كل صباح تنظر إلى الصورة وتقول: “أنا بقيت لأتحدث عنهم، لأقول إنهم كانوا هنا، وإنهم لم يختفوا من الذاكرة”.
طفل واحد باقٍ

السيدة أماني الخور (32 عامًا) فقدت زوجها وخمسة من أبنائها في قصفٍ طال منزلها بحيّ الصبرة، ولم ينجُ سوى طفل واحد. اليوم، وبعد مرور أربعة أشهر، لا تزال تنتظر إخراج جثامين أبنائها المفقودين لتتمكن من دفنهم.
تقول: “كنت في زيارة إلى منزل عائلتي في مخيم الشاطئ برفقة طفلي الصغير، فلما عدت إلى المنزل تفاجأت بتعرضه للقصف دون سابق إنذار، ولم يخرج منه أحد على قيد الحياة. واليوم أنتظر بفارغ الصبر اللحظة التي تمكنني من تشييع أبنائي الأربعة ومعرفة مكان دفنهم”.
القصف أجبر الأم المكلومة على النزوح إلى جنوب القطاع مع طفلها، تاركة خلفها زوجها وخمسة أطفال تحت الأنقاض. وتمكنت فرق الدفاع المدني فيما بعد من انتشال جثمان زوجها وطفلٍ واحد فقط، بينما ظل الباقون مفقودين، تاركين أماني في حالة فقدٍ معلّق.
هذه الحالات الفردية جزء من مأساة أوسع يعانيها آلاف الفلسطينيين. وتشير تقديرات المركز الفلسطيني للمفقودين والمخفيين قسرًا إلى أن عدد المفقودين والمخفيين في غزة يتراوح بين 8,000 و9,000، وسط صعوبة التوثيق الكامل بسبب استمرار العدوان والانقطاع المتكرر للاتصالات. آلاف العائلات تبحث عن أحبائها بين الركام والمقابر الجماعية، دون أي إجابة موثوقة عن مصيرهم.
الفقد المعلّق وأثره النفسي

يشرح أخصائي الصحة النفسية د. سامر عوض أن ما تعانيه هؤلاء النساء يُعرف بـ”الفقد المعلّق”: “الفقد العادي يسمح للإنسان بإقامة الطقوس، بالبكاء وبناء ذاكرة واضحة، لكن في حالة غياب الجسد يبقى الفرد عالقًا بين الأمل واليأس، بين احتمال أن يكون المفقود حيًا وبين إدراك أنه قد رحل فعلًا”.
ويضيف د. عوض: “هذا الصراع يولّد حالة من الإنهاك النفسي المستمر، خاصة عند النساء اللواتي يجدن أنفسهن مضطرات لرعاية الأطفال أو إعالة العائلة في ظل غياب الأحبة. الحزن هنا لا يبدأ أصلًا بشكل مكتمل، لذلك يبدو مستمرًا بلا نهاية”.
ويؤكد الباحث الاجتماعي د. فادي سليم أن غياب الجسد يهدم أيضًا المعنى الرمزي الذي يحمله القبر، فيقول: “القبر ليس مجرد حفرة، بل شاهد على أن الراحل عاش بيننا، ومكان يربط الحزن بالذاكرة. حين نفتقد هذا الشاهد، يصبح الفقد بلا حدود، ويظل الحزن يتنقل في الزمن بلا استقرار”.
ويضيف: “في المجتمعات التي تمرّ بالكوارث والحروب، يصبح القبر ضرورة نفسية واجتماعية، لأنه يوفر إطارًا واضحًا للحزن، ويتيح للنساء والأمهات الانتقال إلى مرحلة جديدة من حياتهن. غياب هذا الإطار يجعل الفقد مفتوحًا على جرح لا يلتئم”.
اقرأ أيضًا: هيا أبو عرجة: عن وجع لا يُدفن في غزة
في غزة، لا يكتفي الموت بخطف الأحبة، بل يترك فراغًا أكبر حين يغيب الجسد. النساء اللواتي يفتقدن هذه الطقوس البسيطة يعشن حزنًا معلّقًا، لا يكتمل ولا ينتهي. بين الركام وصور الغائبين وذكريات الحاضر، يظل السؤال مفتوحًا: كيف يُدفن الحزن بلا قبر؟ وهل تكفي الذاكرة وحدها لاحتضان الغياب؟
الصمت هنا يصبح أداة إدراك، وشاهدًا على غياب العدالة، وعلى التناقض المأساوي للحياة التي تستمر وسط الركام والغياب. فالحزن المعلّق في غزة ليس مجرد تجربة شخصية، بل شهادة على حرب تهشّم الجسد والروح معًا، وتترك أثرها في كل بيتٍ وذاكرةٍ وكل قلبٍ يتلمّس أثر أحبائه.

