بنفسج

غزة.. الجرح الذي أعاد تعريفنا

الثلاثاء 07 أكتوبر

عامان على الإبادة
عامان على الإبادة

مضت حروب تاريخية عالمية وإقليمية وأهلية كثيرة، لكن أيًا منها لم تُعد تعريفنا في مواجهة أنفسنا منذ حرب الإبادة في غزة، التي راح ضحيتها ما يقارب 65 ألف شهيد، دُهست أجسادهم وتهشمت تحت أطنان من الصواريخ والقنابل التي صنعتها دول الغرب البيضاء المتحضرة. تفاجأنا أمام أنفسنا مع الأيام التي مضت مع الحرب ولا زالت تمضي، باغتتنا أسئلة وجودية كبيرة، عن ماهية وجودنا، وحضورنا أمام الدماء التي تنسكب، ووعينا وفاعليتنا، فبدا وكأن هذا الوقف التأملي انكسار أمام الذات وإحساس عاجز عن القول والفعل والتفكير. أعادت الحرب صياغة وعينا بأنفسنا وبالعالم، وربما استيقظ أمل غائب في وعينا الداخلي العميق الذي يرغب ولا يرغب في آن بشهادة حرب التحرير. 

البعد النفسي
تركت حرب الإبادة ندوبًا عميقة فينا جميعًا، حتى أولئك الذين لم يعيشوها ميدانيًا. صارت صور الأطفال تحت الأنقاض تلاحق أحلامنا، وصوت الأمهات يصرخن في وجداننا كلما مرّ مشهد موت جديد. أصبحنا أكثر صمتًا، وأكثر حساسية تجاه الألم الإنساني. كثيرون فقدوا قدرتهم على التفاعل الطبيعي مع الحياة اليومية؛ إذ تحوّل الفرح إلى فعل يثير الذنب، وكأن الضحك خيانة للذين تحت الركام. لقد ولّدت الحرب بداخلنا ما يشبه الاغتراب عن العالم، إحساسًا بأن كل ما حولنا مؤقت وزائل، وأن الطمأنينة التي عرفناها سابقًا لم تعد كما كانت.

البعد الإيماني
أما من الجانب الإيماني، فقد أعادت الحرب صياغة مفهوم الإيمان في حياتنا، والأمل بهذا الإيمان اليقيني، لا ينقذنا سواه من تعقيدات الزمن الذي نعيشه، لم يبقَ سوى الدعاء والإيمان بالعدل الإلهي. تجلت في الناس مشاعر القرب من الله، وازداد الوعي بمعاني الصبر والابتلاء والجهاد، لا بوصفها شعارات، بل كقيم حقيقية تمنح القوة لمن يعيشون على حافة الفناء. لقد أيقظت غزة فينا الإيمان الحيّ، ذاك الذي يربط الروح بالمطلق ويجعلنا نرى النور في قلب الظلمة. جعلتنا الحرب نؤمن بالمعجزات والخيالات والأبطال، فكل ما يحصل فيها عصي على الفهم والإدراك العقلي، ونهايتها كفيلة بهذا الإيمان اليقيني بأمر الله. 

أعادت الحرب صياغة مفهوم الإيمان في حياتنا، والأمل بهذا الإيمان اليقيني، لا ينقذنا سواه من تعقيدات الزمن الذي نعيشه، لم يبقَ سوى الدعاء والإيمان بالعدل الإلهي. تجلت في الناس مشاعر القرب من الله، وازداد الوعي بمعاني الصبر والابتلاء والجهاد، لا بوصفها شعارات، بل كقيم حقيقية تمنح القوة لمن يعيشون على حافة الفناء.

بعد الإحساس بالزمان
غيّرت الحرب إحساسنا بالزمن ذاته. صارت الأيام تتثاقل، واللحظات تمتدّ كأنها دهور. الزمن في غزة لم يعد متتابعًا بل متقطّعًا بين قصفٍ وهدوءٍ مؤقت، بين فجرٍ يأتي بعد ليلةٍ من الخوف، وبين صباحٍ يفتقد وجوهًا رحلت. ومن يراقب من بعيد، يعيش بدوره انكسار هذا الزمن؛ فكل خبرٍ عاجل يوقف عقارب ساعته، وكل صورةٍ جديدة تجرّه إلى ذاكرةٍ مثقلة لا تعرف الاستمرار. صار الزمن عندنا زمنًا أخلاقيًا، لا يُقاس بالدقائق بل بالمواقف، مَن بقي مع الحق، ومَن صمت، ومَن خذل.  البعد الزماني والمكاني في قيمة اللحظات التي باتت تحتسب لمن هم في غزة فقط، أما نحن، فالزمن متوقف لدينا، أي أن قيمة الحياة الأساسية المحسوبة هي للمجاهد بنفسه وماله ووطنه، وعداد الوقت يهرول في الصالحات. 

سقوط المثل التي تتغنى بها الدول العظمى
من بين التحولات الأعمق التي أحدثتها الحرب على غزة، كان انكشاف زيف المثل التي لطالما رفعتها الدول العظمى في وجه العالم. الحرية، العدالة، حقوق الإنسان، تلك الشعارات التي بُنيت عليها الحضارة الغربية الحديثة، سقطت دفعة واحدة تحت ركام غزة. رأينا بأعيننا كيف تهشمت قيم الحرية، وكيف صمتت الديمقراطيات العريقة أمام مشهد قتل الأطفال وتجويع المدنيين. بدت العدالة الدولية عاجزة، أو متواطئة، أو مختارةً أن تكون عمياء أمام الضحية إذا كانت فلسطينية.

لقد تعرّى الخطاب الإنساني الذي طالما قُدّم لنا كحقيقة كونية. تبيّن أنه مشروط بالمصالح، وموجّه لخدمة من يملكون القوة والسلاح. فحين سُحقت غزة، سقطت معها تلك المثل التي كانت تُقدَّم كرموز أخلاقية للعالم. صار العالم يفرّق بين دمٍ ودم، وبين وطنٍ ووطن، وبين إنسانٍ وإنسان. هذه المفارقة القاسية جعلتنا نعيد تعريف القيم من جديد؛ لم تعد الحرية تُقاس بما تقوله الشعوب الغنية، بل بما يدفعه الفقراء من ثمنٍ ليبقوا أحرارًا؛ ولم تعد العدالة قرارًا في محكمة، بل صمودًا في وجه الظلم مهما طال.

في لحظةٍ تاريخية كهذه، أصبح واضحًا أن غزة ليست مجرد جغرافيا تقاوم الاحتلال، بل هي اختبارٌ أخلاقي للعصر الحديث بأسره. في سقوط المثل الزائفة، وقيام القيم الصادقة من بين الرماد، بدأت الإنسانية رحلة بحثٍ جديدة عن

البعد الأخلاقي
 البعد الذي يُعيد تعريف الإنسان ذاته أمام الألم؛ ما يحدث في غزة ليس مجرد صراع بين قوتين، بل امتحان لضمير العالم، ولجوهر الأخلاق الإنسانية حين تواجه الإبادة. لقد كشفت الحرب أن الأخلاق ليست مجرد مبادئ تُدرّس في الكتب، بل هي فعل يتجلّى حين يصرخ طفل تحت الأنقاض، وحين يختار الإنسان أن يقف إلى جانب المظلوم لا إلى جانب الصامتين.

كل طفل يُقتل، هو جرح في القيم التي تزعم البشرية أنها بنتها عبر قرون. لهذا صار موقف الناس من غزة معيارًا لمدى بقاء الخير في هذا العالم. لكن في المقابل، أثبتت غزة أن الأخلاق تعاد تمظهراتها في زمن الإبادة: طبيب لا يغادر المستشفى رغم تلقيه التهديدات، أمّ تركض بأبنائها رغم تعبها من نزوح إلى آخر، شابّ ينقذ الأصوات من تحت الأنقاض وهو يعلم أن القصف قد يطاله...

السكوت على ما يحدث في غزة هو سقوط أخلاقي بامتياز، كل قنبلة تُلقى على غزة، تصيب فينا جزءًا من ضميرنا العالمي. كل طفل يُقتل، هو جرح في القيم التي تزعم البشرية أنها بنتها عبر قرون. لهذا صار موقف الناس من غزة معيارًا لمدى بقاء الخير في هذا العالم. لكن في المقابل، أثبتت غزة أن الأخلاق تعاد تمظهراتها في زمن الإبادة: طبيب لا يغادر المستشفى رغم تلقيه التهديدات، أمّ تركض بأبنائها رغم تعبها من نزوح إلى آخر، شابّ ينقذ الأصوات من تحت الأنقاض وهو يعلم أن القصف قد يطاله. تلك المشاهد هي التعبير الأخلاقي الأكثر صدقًا وصمودًا وصبرًا في زمن الخراب.

لقد علمتنا الحرب على غزة أن الأخلاق ليست حيادًا، بل انحيازٌ للحرية والمقاومة والكرامة والحق في الحياة.  إن البعد الأخلاقي للحرب على غزة هو ما يجعلها ليست حربًا في الجغرافيا فقط، بل في الضمير الإنساني أيضًا. ومع كل قصفٍ جديد، تتجدد الأسئلة الكبرى عن معنى العدل، والرحمة، والمسؤولية، ليبقى صوت غزة شاهدًا على أن الأخلاق الحقيقية تولد في مواجهة الموت...