بنفسج

دانية المدهون: مذكرات ناجية وحيدة

الثلاثاء 12 اغسطس

الناجي الوحيد من العائلة
الناجي الوحيد من العائلة

دانية عامر المدهون، 15 عامًا، عشت فيها بين عائلة يملؤها الدفء، أستيقظ على صوت أبي يناديني لصلاة الجماعة، وأغفو على همسات أمي وهي تدعو لي، وبينهما كنت أكبر، مطمئنة محاطةً بالحب، بالأمان، بضحكات إخوتي، بأحاديث العائلة، ولم أفكر يومًا أن تغيب كل تلك الأصوات دفعة واحدة.
لم يخطر لي يومًا أن ينقلب كل هذا في لحظة، أن أُنتزع من بينهم، وأجد نفسي الناجية الوحيدة من بيتٍ كان يضج بالحياة، والشاهدة الوحيدة على بيتٍ كان عامرًا بكل شيء جميل.

عشتُ وجعي لا في الفقد وحده، بل في إصابتي أيضًا بكسور عديدة وحروق، كنت أفتقدهم في كل لحظة، أبحث عنهم في الممرات، في الوجوه، ولا أجدهم. رحلوا جميعًا؛ أبي، أمي، إخوتي وبقيت وحدي لأحمل ما تبقى من اسمنا، من ذكرياتنا، من أحلامنا، غادروني جسدًا، لكنهم تركوا فيّ كل ما يمكن أن يبقيني واقفة: الصبر، الإيمان، والقوة التي كانوا يردّدونها دائمًا بأن الله لا يترك من لجأ إليه. لهذا، رغم كل الانكسار، قررت أن أكمّل طريقهم، لأنني البقية الباقية منهم.

شهيدي البطل أبي الغالي .. العامر في قلبي

الناجي الوحيد من العائلة

صديقي وسندي ومصدر طمأنينتي، المُدلِّل لي، لم يكن يحتمل دمعة تفرّ من عيني، كان دائمًا في صفي، يراني بنظرته التي تزرع فيّ الثقة أكبر من ضعفي، وأجمل مما أظن، وكان يقول لي دومًا: "كوني أفضل نسخة من نفسك، حيث الله يحب عبده". في البيت، كان صوته هو نداء الصلاة، وصوته في القرآن يملأ الزوايا نورًا وخشوعًا، لم يكتف بالتلاوة، بل كان يعقد المجالس ويشرح، يعلّمنا بلين، يناقشنا بمحبة، كان عارفًا بدينه، رحيمًا في خُلقه، كأن الله وضع في قلبه نورًا لا يخفت.

كان ناجحًا في عمله كما في حياته، مربي أجيال بحق، فاز عدة مرات بلقب "المعلم المثالي" وفي عينيّ كان الأب المثالي، في خُلقه، وصبره، وإيمانه، كنت أفخر به حين يتحدث عن الله، حين يُوقن أن النصر آتٍ، حتى في أشدّ لحظات الحرب كان يردد بثقة:

"والله نهاية المحتل قربت .. خلوا إيمانكم بربنا قوي"، كان يقوينا بالله.. بصوته، بحضوره، بابتسامته الهادئة وسط كل فزع. رحل أبي شهيدًا كما تمنى في دروب الجهاد، لكن كل شيء فيه ما زال حيًا في قلبي: صوته، نصائحه، حضنه، صوته داخلي كأنه يقول لي في كل لحظة خوف وضعف: اثبتي .. الله معك.

أمي الحبيبة إسراء .. صديقتي وأختي

الناجي الوحيد من العائلة

كانت تعيش لأجل راحتي، كأن سعادتي رزقها الذي لا يُرد، وراحتي غايتها القصوى، لم تكن فقط أمي، بل صديقتي وأختي الكبيرة التي تفهم مصلحتي أكثر مني، وتنصحني بخوف أمٍّ تخاف على قلبها لا عليّ فقط. كانت تأخذ رأيي في كل صغيرة وكبيرة، رغم صغر سني، كأنها تزرع فيّ ثقة تُشبه الكبار، وتمنحني شعورًا أني جديرة بالرأي والحضور. أمي أجمل من يصنع الحلوى.

تُتقنها وكأنها تصنع الفرح بيديها، شاء القدر أن تحفظ وصفاتها في مقاطع على "يوتيوب" عبر صفحة (roza.karaza) لا لتصل للعالم فقط، بل ليبقى لي كتابها الحيّ، كلما اشتقت إليها، ولرائحة طعامها، أذهب لأصنع شيئًا من وصفاتها، وحيث كان بصوت حبيبتي، كأنها بجانبي ترشدني، وتطعمني وتسقيني.

اليوم، في قلب المجاعة في غزة، نفتقد كل شيء، حتى ما يسد رمقنا، ووسط هذا العجز، لا أنسى دفء طعامها، ولا وصاياها، أرجو أن تنتهي هذه الحرب، ويعود لنا بعض مما كنّا، فقد تركتِ يا أمي فيّ فراغًا لا يُملأ، وحنينًا لا يُروى.


اقرأ أيضًا: سناء الريس: رسائل حبسها الركام وأوصلتها الشهادة


أمي كانت صديقة الجميع، قلبها واسع كاتساع حنانها، لا تمر بأحد إلا وتترك في قلبه أثرًا طيبًا، وكأنها خُلقت لتواسي، وتزرع محبة في كل روح تقابلها، كانت تؤمن أن اللقاءات لا تُختتم دون أثر، وأن في كل وداع فرصة لزرع ذكرى تبقى. لا أنسى ذلك الصباح داخل الخيمة، حين كانت صديقتها آلاء تستعد للسفر وسط الحرب، رأيت أمي منذ الفجر تقلب في الأغراض كأنها تبحث عن شيء ثمين، فسألتها: "على شو بتدوري يا ماما؟".   

فقالت لي: "بدوّر على إشي أتركه لآلاء، ذكرى تبقى معها.. خطر لي هالفنجان، اللي بنشرب فيه قهوتنا مع بعض كل يوم بين خيمتنا وخيمتها"، أهدتها إياه وقالت: "كل ما تشربي فيه القهوة تذكريني وادعيلي، يمكن نستشهد".

واليوم، لا يفارق الفنجان يد آلاء، صار طقس قهوتها مرتبطًا به، أسمته "فنجان إسراء"، وتحدثت عنه لكل من تعرف، ليس لأنه فنجان فقط، بل لأنه يحمل ذكرى امرأة عظيمة تحبها، تترك أثرًا حتى في أبسط الأشياء .. حتى فنجان قهوة.

إخوتي: وصف لا يكرره الزمن

الناجي الوحيد من العائلة

عبيدة، ابن الرابعة عشرة، كان وجه أبي حين يغيب، يشبهه في صلابته، في ملامحه، في نبرة صوته حين يغضب من الخطأ. كان رجلاً في عمرٍ صغير، يخفي حنانه خلف شِدة ظاهرة، لكنه إن رآني أحتاج شيئًا، سبقني إليه. في الحرب، أصرّ أن يعمل ليُعين والدي، كأن قلبه وُلد على هيئة مسؤولية. وعبدالله، ابن العشرة أعوام، هادئ محبوب من الجميع، خفيف كنسمة، يدخل القلب دون استئذان، كان يمشي بخفة نحو كل شيء، لكن الحرب لم تمهله كثيرًا، وخطفته من يدي قبل أن أشبع من ضحكاته.

ثم عمر .. والألف "آخ" مؤلمة بذكره، كان الأقرب إلى قلبي، ابني قبل أن يكون أخي، ستة أعوام، وستة قلوب لا تتسع لحبه. ربيته طفلاً وأنا صغيرة، فتعلّقت به كما لا تُوصف الأم بابنها، شعره الذهبي، وابتسامته التي تكفي لتزيح غبار الحرب، فَقْده جرحٌ لا يلتئم.

وأسيل .. قطعة الحلوى الأخيرة، أختي الصغيرة، وابنتي، وملكتي. كنت أقول لها مازحة: "حتكوني ملكة جمال العالم، مش بس غزة!" تمنيت أن تبقى بجانبي بعد الجميع، أن نسند بعضنا في هذا الوجع، لكنها فارقتني بعد شهرين، وكان وداعها كأنني دفنت ضحكتي معها.

أما محمد صغيرنا الذي بالكاد بدأ الحياة، أربعة شهور فقط، لكنه غيّر شكل الحرب داخلي، أنساني صواريخ العدو، كنت أهرب إليه من وجع الواقع، رحل بسرعة، كأن روحه جاءت لتودّع لا لتعيش، ولم ألحق بتكوين ذكرياتي معه سوى ضحكته التي لم تطل. في كل واحد منهم شيء لا يتكرر، وفي غيابهم معاً، ضاع الصوت، وبقيت وحدي أرتّق هذا القلب بثوب الذكرى، وأحملهم في كل خطوة، أحكي عنهم وأكمل حلمهم.

ضحكاتنا، وأحاديثنا الممتدة حتى النوم، مشاكساتنا الصغيرة التي لا تلبث أن تنقلب لضحكٍ لا ينتهي .. أفتقد كل شيء، إخوتي كانوا عالمي الصغير، أصدقائي وسندي رغم صغرهم، كنا نفهم بعضنا بنظرة، ونتقاسم تفاصيل الحياة بحبٍ فطري لا يوزن بثمن، لكنني كنتُ في اختبارٍ قاسٍ للفقد، وكأن قدري أن أودّعهم واحدًا تلو الآخر. 

في 23 مايو 2025، ارتقى عبيدة ومحمد مع أبي وأمي في لحظة واحدة، لم أكن قد أفقت من هول الفقد، حتى بقيت أعيش على أمل نجاة عبدالله، وعمر، وأسيل، ثلاثتهم كانوا كل أملي، ووجعي، ورجائي.

رحل صغيري عمر بتاريخ 6 يونيو ثم عبدالله حبيبي بتاريخ 14 يونيو .. ثم أسيل مدللتي الصغيرة، بقيت تصارع إصابتها الخطيرة في العناية المركزة لشهر ونصف، كنتُ أنتظر كل إشارة منها، كل رمشة، كل حركة، وكنتُ أقول: "كل ما كانت تفتح عيونها، الكون كله بيضحك". لكن حتى هذا الأمل الأخير، اختطفه القدر.. ورحلت أسيل، رحل حضني الأخير، رحلت الأمانة الباقية من عائلتي.


اقرأ أيضًا: أنفال الرقب: الوجع ربيبي بعد زوجي وابنتي


أنا لست وحدي .. الله معي هذا ما رباني عليه أبي وكان يكرره على مسمعي كل لحظة، (ما تخافي الله معك)، سأكمل الطريق.. ليس لأن الحياة أجبرتني، بل لأن عائلتي تستحق أن يُحفظ ذكرهم، ويُروى مجدهم. أعرف أن الطريق لن يكون سهلًا، وأن الغصة لن تزول، لكنني أؤمن أن الله لا يخذل من تربّى على الرضا، وأن الألم لا يضيع إذا صبرنا عليه.

سأكبر، وسيرى الجميع أن ابنة عامر وإسراء المدهون، ما زالت تسير على خطاهم .. وحدها برعاية الله، وبكل ما تركوه في قلبها من حلم ومحبة وأثر جميل.  كيف أرى مستقبلي الآن؟ سأراه كما رأت أمي وأبي لي دومًا، ممتلئًا بالعزم، ممهورًا بثقتهم، ومحمّلاً برسائلهم التي غادرتهم وبقيت أمانة في قلبي. قد أكون وحدي اليوم، لكنني أحمل عائلة كاملة في داخلي .. أحلامهم، أخلاقهم، وحتى نبراتهم لا تفارقني.

مستقبلي ليس سهلاً، لكنه لن يكون فارغًا، يكفيني أن تحطّ الحرب أوزارها، وأن تنتهي المعاناة عن هذا الشعب الأعزل، أما أنا، فسأكون سندًا لكل ناجٍ، نحمل عن بعضنا ثقل الفقد، ونبني معًا عائلة ودّية، تُشبه قلوب عائلاتنا التي رحلت، وتكمل حكايتهم بما يليق بهم.