بنفسج

لحظات تسبق الانهيار: ومضات تعيد ترتيب العالم

الخميس 04 ديسمبر

ماذا يعني أن تنهار؟
ماذا يعني أن تنهار؟

ومضات تُعيد ترتيب العالم  هناك لحظات غريبة تسبق الانهيار؛ لحظات صمت ثقيل لا يشبه الهدوء المريح. يخيل إليك أن كل شيء على ما يرام، وأن العاصفة قد هدأت، لكنك في داخلك تعرف أن العاصفة لم تنتهِ، بل هي مجرد استراحة قصيرة قبل الفيضان. تشعر كأن العالم توقف فجأة، وأن أنفاسك أصبحت خفيفة، فيما يبتسم القلق ابتسامة ماكرة؛ تلك الابتسامة التي يُطلقها قبل لحظة السقوط الأخيرة.

ذلك الهدوء الذي يسبق الانفجار لا يُرى، بل يُحسّ. يحمل داخله آلاف الصرخات المكتومة. تلك الابتسامة الخافتة التي تخفي وجعًا ثقيلًا، وذلك الشعور بأنك تجلس بين الناس كحجر صامت، تسمع كثيرًا، تفكر أكثر، وتحاول إيجاد حل… ولكن دون جدوى. كل شيء يبدو طبيعيًا، لكنك تعلم أن شيئًا في داخلك ينهار ولا يسمعه أحد سواك.

في تلك اللحظات يتوقف الزمن؛ لا شيء أشد إيلامًا من الصمت الذي ينهشك من الداخل، ولا عبء أثقل من قلب يحمل كلمات كثيرة لا يستطيع البوح بها. تحاول أن تمارس يومك بشكل طبيعي، بينما تدرك تمامًا أن الانفجار يقترب.

تبدأ بفقدان الإحساس بما حولك؛ الضحك والكلمات تمر أمامك بلا معنى، والأيام تُستنسخ كأنها نسخة واحدة تتكرر بلا توقف، كأنك وضعتها جميعًا في طابعة الألم ذاتها. يظن الناس أنك بخير لأنك لا تتكلم ولا تشكو ولا تبكي، وتكتفي بابتسامة وهمية. لا يعلمون أن وراء تلك الابتسامة صمتًا صوته أعلى من ألف صرخة، وأنك لم تعد تملك الطاقة لإطلاق صرخة واحدة، ولا الرغبة في شرح ما بداخلك، لأنك تعلم أنه لا أحد سيفهمك.


اقرأ أيضًا: حين تتسع السماء في قلب الضيق


حينها تتعب من المقاومة، من محاولاتك المتكررة للصمود وإقناع نفسك بأنك قادر على الاحتمال. لكن الحقيقة أنك لم تعد كذلك؛ فالهدوء ليس طمأنينة، بل استراحة قصيرة قبل موجة غرق جديدة.

وفجأة، ينهار كل ما كنت تحمله، كجدار هشّ قاوم طويلًا رغم الشقوق التي ملأته. تنهار بلا صوت، بلا دموع، فقط بثقل الإحساس أنك لم تعد كما كنت. وبعد الانهيار، لا تعود كما كنت أبدًا. يغيّرك الألم بصمت؛ يجعلك أكثر هدوءًا، أكثر حذرًا، أقل ثقة بالمجتمع. أنت تعلم أن الهدوء القادم ليس سلامًا، بل بداية عاصفة جديدة تنتظرك في زاوية ما من قلبك… ملامح حياة خامدة ترتسم في داخلك.

تندفع إليك أحيانًا رغبة هائلة في الحديث، لكن ما إن تصل الكلمات إلى شفتيك حتى تدرك أنه لا أحد سيسمعك، ولا أحد سيشعر بمرارة ما ذقته. فتعود الكلمات أدراجها، تهبط شيئًا فشيئًا إلى قلبك، وتستقر قربك في سجنك الداخلي، تواسيك، وتحكي لك عن مستقبل ضبابي لا ملامح واضحة له، سوى أنك تعرف أن الطريق إليه ليس سهلًا، وأنه مليء بالخيبات واللحظات القاسية.

ربما أتذكر تلك الخيبات لأنني لا أستطيع نسيانها، أو لأنني كلما حاولت دفنها خرجت من جديد، وظلّت تلاحقني كظلّ يرافقني في كل مكان. سجني الداخلي يجعلني أكتم كلامي، ولا أبوح به إلا للجدار الذي أتكئ عليه… ربما لأنه أصدق من البشر؛ يسمع ولا يتكلم.


اقرأ أيضًا: في مدينة تُقصف من السماء... يصبح الطموح بطولة


أحاول الوقوف، لكن يثقلني الكلام. أحاول إخراجه، فأرى حولي سيوفًا تنتظر لحظة الضعف لتطعنني، فأحبسه وأقف جانبًا. أمشي بين الناس بهدوء ظاهري، أتكلم بهدوء تام، لا أثق بأحد، ولا أبوح لأحد بشيء. أخاف أن تخرج كلمة واحدة من قلبي فتهدم البرج الذي بنيته من الذكريات القاسية. لست عدوًا لأحد، والجميع يحبونني، لكنني لا أثق بأحد بعد الخيبات التي تلقيتها ممن أحبهم. أعطيتهم سري، فوجدت نفسي أسمعه من أفواه الآخرين.

ومع ذلك، أنا متفائل بوجود نهاية لهذا السجن. هناك مفتاح ما، أعرف أنه موجود، لكنه بعيد. وكلما اقتربت منه زادت العتمة وزادت سماكة الجدار الذي يفصل بيننا. ولكن الوصول إليه ليس مستحيلًا… المستحيل هو أن أمنح ثقتي بسهولة مرة أخرى. الكتمان ليس مؤلمًا فحسب؛ إنه معلّم صامت، يشحذك، ويصقل قوتك التي اعتدت أن تستمدها من نفسك وحدك، بعيدًا عن أي سند آخر.