ارتجفت أنصار ابنة الأسيرة فاطمة منصور يوم اعتقال والدتها، حين دفعتها مجندة بقسوة هي وشقيقتاها ووالدهن إلى داخل الحمّام، وأغلقت الباب عليهم بالقوة. بقيت أنصار تحدّق بدهشة وذهول، ترى أمها تُنتزع من أمام عينيها في مشهد كلّما حاولت إغماض جفنيها لتتناساه، عاد إليها بوضوح أشد، كأن الذاكرة تصرّ على استحضار اليوم الذي سُلبت فيه أمّها من بيتها قسرًا.
منذ غياب الأم تغيّرت الحياة. اختفت الطقوس العائلية التي لا تكتمل إلا بوجودها، وغابت الابتسامة عن البيت حتى عودتها. كانوا يعدّون الليالي عدًّا، ينتظرون احتضانها بعد شهور من الغياب والعذاب. يذوب قلب الزوج كمدًا في كل ليلة، وهنا تحكي أنصار لمنصة بنفسج عن يوم الاعتقال وما خلّفه من ألم لا يُمحى.
يوم الاعتقال المشؤوم

في 29 نيسان/ أبريل 2025، داهمت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزل فاطمة بعد جولة بحث عنها في بيت عائلتها والأقارب، في تمام الساعة الثانية بعد منتصف الليل كان الجنود يعيثون في البيت وينكلون بمن فيه، تقول ابنتها أنصار: "كانت ليلة عصيبة، أهاننا الجنود ومزقوا صور خالي الشهيد محمود حميدان المعلقة على الجدار، وحبسونا في الحمام، كنا مذهولين من اعتقالهم لأمي، لم نصدق أبدًا ما يجري، قلنا ستعود حتمًا لكنها إلى اليوم لم تعد".
قوبل الجنود بالاعتراض من زوجها وأبنائها على اعتقالها، لكن مع كثرة المشادات معهم كانوا على وشك اعتقال ابنتها سميرة، لكن ذلك لم يحدث ورحلوا مع فاطمة وحدها التي لم تحدد تهمة واضحة لها، وحكم عليها مؤخرًا بالسجن الفعلي لمدة عام واحد.
اقرأ أيضًا: الاعتقال كأداة ابتزاز: أسرى يساومون على زوجاتهم وأمهاتهم
تركت الأسيرة فاطمة معلمة التربية الإسلامية، ورائها سبع أبناء، أكبرهم أنصار (21 عامًا)، سميرة (19 عامًا)، محمد (16عامًا)، سوار (11 عامًا)، فلسطين (10 أعوام)، جولان (4 أعوام)، وتين (عامان)، وزوج محب ينتظرها بفارغ الصبر كل ليلة، أنهكه الحزن في غيابها، حتى بات ظاهرًا على ملامحه.
يستذكر زوجها يوم أن كان واقفًا عاجزًا والجنود يحاصرون زوجته من كل صوب وحدب، وضع يديه على قلبه وهم يلتقطون صورها ليتأكدوا من هويتها، ثم وضعوا العصبة على عينيها واقتادوها أمام أعينه وأطفالها للمجهول، تضيف أنصار: "أبوي هدّه الحزن.. بستناها كل يوم بفارغ الصبر".
رسائل من عتمة السجن

كانت فاطمة ترسل السلامات لأطفالها وزوجها وكل العائلة الممتدة، وفي كل رسالة تبكي أنصار شوقًا لوالدتها، تضيف: "أحتضن وتين شقيقتي التي تبلغ من العمر عامين، ونبكي معًا، تركض مع جولان البالغة من العمر 4 أعوام لتجلب هاتفي وتطلب أن أريها صور والدتي، ليخبراني بشوقهما".
"بدي آخد بسكليتي وأروح اجيب إمي من السجن.. أنا قوية وشجاعة". تقول سوار بنبرتها الطفولية، بينما أنا وسميرة شقيقتي نمسح دمعة متمردة سقطت رغمًا عنا أمام الصغار، لنعانق بعضنا ونبكي.
تروي أنصار لشقيقتاها وتين وجولان عن أمهما، والذكريات يوم الجمعة حينما كانت تجمعهم وتروي الدرس الديني الأسبوعي، تردف بابتسامة خافتة: "اشتقت لنغاشة إمي واحنا بنلقط الزيتون، وإحنا بنطلع مشوار كل يوم خميس، من يوم اعتقالها وقفنا كل الطقوس المعتادة، بنستنى الترويحة بفارغ الصبر".
حالة صحية مأساوية

انخفض وزن فاطمة 15 كيلو، وحفظت 23 جزءًا من القرآن الكريم، وترسل شوقها لأولادها مع كل أسيرة تخرج من السجن، تقول أنصار: "كتبت في رسائلها الأخيرة أنصار أول عطاء ربي، وتين وجولان قطعة من روحي، وأهدت سميرة المباركات بعد عقد قرانها، أما محمد وصفته باليد الحانية، وسوار بالابنة الحبيبة، وفلسطين الوطن والعالم".
تنتظر فاطمة يوم تحررها لتلقي ابنتها فلسطين على مسامعها قصيدة الحرية، فقد اشتاقت لصوتها البهي، وتحلم بلحظة عناق آخر العنقود رفقة الأخوة كلهم، أما زوجها قالت عنه: "مشتاقة للصدر الحامي إلي ولولادي".
تقول بشوق في رسائلها: "بشوف أنصار بمنامي، مع وتين الصغيرة، جيت أحضنهن بس الضابط ما خلاني وقتها بكيت كتير بالحلم" تعاني أم أنصار من أوضاع صحية صعبة، إذ أصابها التحسس الجلدي وظهور الحبوب في مختلف أنحاء جسدها، وانعدام الملابس والخصوصية، والتنكيل من قبل السجانين، لكن معنوياتها عالية تنتظر لحظة التحرر، تختم أنصار حديثها لبنفسج: "يا الله مشتاقين لـ إمي.. أنا وسميرة وأبويا حاملين حمل البيت وإخواني، الحزن هدّنا".٠٠

