في أحد أروقة مستشفى ناصر في خانيونس كان أحمد يرقد على سرير المرض، منهك الجسد ومثقل النفس بعد أن فقد قدميه نتيجة القصف الإسرائيلي. إلى جانبه كان يقف شقيقه يوسف، يلازمه كظلّ أملٍ صغير؛ يساعده على الحركة والجلوس والطعام، ويواسيه بما يستطيع من كلمات علّها تخفف شيئًا من وجعه.
لم يكن أحمد أو يوسف يعلمان أن الألم الذي عاشاه سيتحوّل فجأة إلى كابوس طويل حين اقتحمت قوات الاحتلال المستشفى، واعتقلتهما معًا دون مراعاة لحالة أحمد الصحية وهو ما يزال على سرير العلاج. لم تتخيل الأم أن يُعتقل ولداها معًا، وأن يُنتزع فلذتا كبدها في لحظة واحدة، فغرق قلبها في خوف لا يعرف حدودًا. وهكذا بدأت حكاية اعتقال الشقيقين أحمد ويوسف ومعاناتهما.
الاعتقال من سرير المرض

في صباح بارد يحمل الكثير من الخوف والاضطراب، دخلت قوات الاحتلال إلى مستشفى ناصر وهي تحاصر المكان بالكامل. لم يتوقع أحمد الذي لا يقوى على الوقوف أو الحركة أن يكون ضمن المعتقلين. اقتحم الجنود غرفته بلا إنذار، وانهالوا عليه وعلى شقيقه بالصراخ، رغم محاولة يوسف إخبارهم بحالة أحمد الصحية ولكن دون جدوى، أخي لا يمشي، أخي موجوع لا يتحرك، أي آذان تصغي، لقد ماتت الإنسانية حقًا وتبدلت أوجه البشرية إجرامًا.
يقول يوسف الذي أُفرج عنه لاحقًا ضمن صفقة تبادل: "كنت ماسك إيد أحمد وبحاول أشرح للجنود إنه ما بيمشي ولا بتحرك، بس ما سمعوا مني، وسحبونا بقسوة… وأنا شايف أخوي بتألم قدّامي وما قدرت أعمل شيء لأني كنت مقيّد."
منذ تلك اللحظة انقطعت أخبار الشقيقين عن عائلتهما، وبدأ القلق ينهش قلب الأم. تعدّدت الروايات حول مصيرهما، بين من قال إنهما قُتلا، ومن ادّعى أنهما اعتُقلا. لكن الأم تمسكت بالأمل، تردّد: "أحمد ويوسف عايشين… أنا حاسة فيهم ." كحال الكثير من الأمهات في غزة منذ الحرب، تائهات في الطرق، باحثات عن أولادهن أو أثرهم، هل ماتوا فنبحث عن أجسادهم نواريها ونحتضنها، هل هم معتقلون اختطفهم الاحتلال فنقتفي أثرهم في أي المعتقالات هم، وهل من سبيل إليهم...
رحلة الألم والتعذيب

نُقل الشقيقان إلى أحد مراكز التحقيق داخل الخط الأخضر، وهناك بدأت مرحلة جديدة من الضغط الجسدي والنفسي، خصوصًا على أحمد الذي كان ما يزال يتعافى من إصابته. يروي يوسف: "كانوا يضغطوا على مكان إصابته ويأمرونه بالحركة وهو مش قادر. ما كانوا يسمحوا لحد يساعده." لم يقتصر التعذيب على الجسد؛ فقد استخدم الاحتلال أساليب نفسية قاسية، فأخبروا الشقيقين أن عائلتهما قُتلت بالكامل. هذه الأكاذيب تركت أثرًا بالغًا عليهما، ودفعت أحمد إلى انهيار شديد، بينما بقي يوسف عاجزًا عن معرفة الحقيقة.
بعد سبعة أشهر من الغياب التام، وصل للعائلة خبر صغير حمله أحد الأسرى المحررين: أحمد ويوسف ما زالا على قيد الحياة وهما داخل سجون الاحتلال. امتزجت دموع الفرح بالخوف، وبدأت العائلة تتابع وضعهما من خلال محامٍ في الضفة الغربية. ثم وصلت أول رسالة من الشقيقين إلى والدتهما عبر المحامي، مكتوب فيها: "إحنا بخير… ما تخافي علينا."
تقول أم أحمد: "كل رسالة كانت توجعني وتطمني بنفس الوقت. كنت أرد عليهم: إحنا معكم… ما تصدقوهم… قلوبنا معكم." كان الاحتلال يمارس ضغوطًا على يوسف عبر تعذيب أحمد أمامه، لإجباره على الإدلاء بمعلومات لا يعرفها أصلًا. يقول يوسف: "إحنا ناس عاديين… ما إلنا علاقة بشي."
اقرأ أيضًا: الاعتقال كأداة ابتزاز: أسرى يساومون على زوجاتهم وأمهاتهم
بعد عام وثلاثة أشهر، أُفرج عن يوسف، لكن أحمد بقي في السجن. يروي يوسف تفاصيل اللحظة القاسية التي ظن فيها أن أخاه سيخرج معه: "شفت أحمد طالع على سيارة الإفراج، ركضت جنبه… بس فجأة أنزلوه ورجعوه للسجن. صرخت وقلت لهم خلّوه يطلع وأنا بقعد بداله… هو مريض وما بقدر يكون لحاله."
لكن الاحتلال رفض. خرج يوسف وحده، وترك قلبه خلفه مع أخيه. ما زالت الأم تعيش على أمل اللقاء، تنتظر أحمد كل ليلة، وتدعو الله أن يعود إليها سالمًا. يثقل قلبها الخوف عليه، خصوصًا وهو في وضع صحي صعب. العائلة كلها تعيش بين رجاء ورهبة، بين انتظارٍ يطول وتخوفٍ من تكرار ما عاشه أحمد في بداية اعتقاله.
قصة أحمد ويوسف ليست حالة فردية، بل واحدة من آلاف القصص التي تكشف المعاناة القاسية التي يعيشها الأسرى الفلسطينيون داخل السجون، وخاصة المرضى منهم. إنها شهادة على وجع الإنسان حين يغيب خلف الجدران، وعلى قلوب تنزف في الخارج، تنتظر خبرًا يشبه الحياة.

