بنفسج

قصتي: المعلمة انتصار العرابيد

الإثنين 26 فبراير

أنا المعلمة انتصار العرابيد، 48 عامًا. معلمة للتربية الإسلامية في مدرسة الشيماء الثانوية للبنات في شمال غزة، من سكان مخيم جباليا.نزحت من الشمال إلى الجنوب رغبة فى إيجاد مكان آمن لأطفالي بعد 34 يومًا من الحرب، وبعد اشتداد الأحزمة النارية حول المنطقة التى كنا نسكن فيها قبيل نزوحنا من الشمال، كنا نسكن، ٤٥ شخصًا، في بيت لا يتعدى 120 مترًا. خرجنا عبر ما يسمى الممر الآمن، لكن لا يمكن أن يسمى إلا بممر الرعب، فما رأينا فيه كان أسوء ما عشناه طيلة الأيام التى سبقت خروجنا إليه، عشنا خوفًا، أضعاف ما قد عشناه من قبل.

أنا المعلمة انتصار العرابيد، 48 عامًا. معلمة للتربية الإسلامية في مدرسة الشيماء الثانوية للبنات في شمال غزة، من سكان مخيم جباليا.نزحت من الشمال إلى الجنوب رغبة فى إيجاد مكان آمن لأطفالي بعد 34 يومًا من الحرب، وبعد اشتداد الأحزمة النارية حول المنطقة التى كنا نسكن فيها قبيل نزوحنا من الشمال، كنا نسكن، ٤٥ شخصًا، في بيت لا يتعدى 120 مترًا.

خرجنا عبر ما يسمى الممر الآمن، لكن لا يمكن أن يسمى إلا بممر الرعب، فما رأينا فيه كان أسوء ما عشناه طيلة الأيام التى سبقت خروجنا إليه، عشنا خوفًا، أضعاف ما قد عشناه من قبل.

في الممر، رأينا الدمار الذى كان على طول الطريق؛ بيوت محترقة أو مقصوفة كلها، مناطق كاملة سُويت بالأرض، أماكن كنت أعرفها جيدًا راحت كل ملامحها، ولم نعد نعرف ما هي، جثث للشهداء. كان الطريق نفسه متعبًا للغاية، لكن في النهاية وصلنا بسلام بعد معاناة شديدة جدًا إلى رفح، حيث كانت حالتي الصحية صعبة جدًا بسبب إصابة بكسر قبيل الحرب، ما زاد الأمر صعوبة. 

بعدما تعافيت لاحظت أن الظروف الصعبة التى مر بها الأطفال جعلت هناك عدوانية شديدة بينهم في مدرسة اللجوء التي كنا فيها، فراغ ووقت طويل يجلس فيه الأطفال، ما يجعل الأطفال يتناوشون، وتدب الخلافات بينهم بسهولة. 

ففكرنا بمبادرة لتحفيظ القرآن للأطفال، ثم تطورت الفكرة لإدخال العلوم الأساسية التى يدرسها الأولاد في المنهج الفلسطيني إلى المدرسة التي أسسناها فى أحد أماكن اللجوء داخل مكان وجودنا. فصارت مدرسة يستعيد فيها الأطفال بعض ما فقدوا، خصوصًا أن هؤلاء الأطفال فقدوا كل شيء فى بيوتهم التى تركوها؛ كتبهم وشهاداتهم، فقدوا كل تفاصيل حياتهم الصغيرة.

كل الأطفال الموجودين في المدرسة هم ممن فقدوا بيوتهم بشكل كامل جراء القصف الصهيوني لمنازلهم بشكل كامل وتدميرها.
فعدنا معهم إلى الحفظ والمراجعة وعمل فصول لهم، نحفظ القرآن ونراجع ما يحفظونه من قبل؛ تناول الحديث فى تدبر السور، ونحكي الحكايات، ندرس أيضًا اللغة العربية، والحساب، حسب أعمارهم ومنهجهم، أصبحت الدراسة تشغل وقتهم، وانشغلت الأمهات بتحفيظ الأطفال ومراجعة ما درسوه. وعاد الأطفال ليتذكروا ما كانوا يدرسونه من العلوم الأساسية في صفوفهم قبل الحرب. 

حتى أن كثيرًا من الأطفال صارت لديهم القناعة أننا يمكننا رغم الظروف أن نصنع فى كل مكان مدرسة وفى كل مكان مسجد، وأن ندرس، ونستغل أوقاتنا رغم الحرب ورغم ما نمر به. شغفي وما أحبه دومًا وهو تعليم الأطفال، فأنا كان لدي الكثير من التلميذات اللاتي كنت أستمتع معهن بالتعلم وبرحلة ابتكار أفكار جديدة فى رحلتهم التعليمية، ندرس سويًا ونتعلم عن ديننا.

كنت أحب كثيرًا المبادرات التعليمية وطرح الأفكار بشكل مختلف، وعمل مسابقات القرآن بشكل مختلف للطالبات، تحفيزهن وتكريمهن على مجهودهن. كان وقتي مع طالباتي من أثمن الأوقات، فهم غرسي الذي أغرسه كل عام،  فالعمل فى التدريس هو من أسعد ما أقوم به، لكن الحرب أوقفت كل شيء، وصرنا نحاول استغلال الممكن والمتاح كي ننقذ الأطفال من براثن الوقت الفارغ والتفكير في ما آل إليه الحال في الحرب.

الحال  يشاهده الجميع ويراه، آلة الحرب تستمر، تلك الحرب التى جعلت مئات الآلاف من الأطفال فى العراء يواجهون الوقت البطيء المرعب ولا يعرفون ماذا يمكن أن يفعلوا كي يمضى هذا الوقت؟ ها نحن هنا نحاول ألا نستسلم، وأن نزرع فسيلتنا مهما حاوطنا من قصف وحرب ودمار، حتى تنتهى تلك الحرب، فيرجع الصغار آمنين لبيوتهم وشهادتهم من مبادرتنا معهم.