نصف ساعة من القهر والأمل في آن واحد، بأن تكون عائلتها حية تزرق. اكتوت بنار الغربة قبل خمس سنوات، ففي كل ليلة منذ اغترابها تبكيهم وهي تحادثهم من شوقها، فكان الفراق الأول لها قاسيًا، فجاء الفراق الثاني الأبدي ليقسم ظهرها، ويفقدها الأب والأخ وابنة الأخ والجدة والأخوال بعائلاتهم.
فلم تستوعب كيف لأبيها الذي وعدها بلقاء قريب أن يخلف الوعد وهو الذي كان لا يحتمل للشوكة أن تجرحها، كيف له أن يغادر دون قبلة أخيرة، دون أن يشاكسها بالقول: "يا عروسة".. فتخبره: "يا بابا بطلت عروسة صار معي ولدين". فيرد: "بتضلك في عيني عروسة".
تستضيف مجلة "بنفسج" إيمان سمير لولو ابنة الشهيد وأخت الشهيد أيضًا، لتحكي عن أبيها، وأخيها وابنته الذين قتلتهم "إسرائيل"، عن ليالي الحرب القاسية في الغربة، لعنة الجغرافيا، وغزة والأحلام التي قتلها الاحتلال، عن الشوق لوالدتها وشقيقها الدكتور عز الدين لولو.
يوم أن قتلتهم "إسرائيل"
" لا يارب أمانة لا.. يارب لا يارب لا حبيبي ي الله لا".. أول ما نطقت به حين وقعت عينيها على الخبر "قصف منزل عائلة سكيك".. سقطت على الأرض، وارتجف جسدها وأصبح قطعة من ثلج، كل ما فعلته أنها تصرخ وتبكي بكاء لم يشق لقلبها طريق منذ أول حياتها، عرفت دموع الفرح وصادقتها، لكن دموعها ذلك اليوم كانت حارقة تنهمر على وجوهها وكأنها جمر بلهيب لا ينطفىء.
في 13 نوفمبر/تشرين الثاني 2023، وفي تمام التاسعة صباحًا حادثت إيمان والدتها وطمأنتها على شقيقها عز الدين الذي يعمل كطبيب في مشفى الشفاء، الذي كانت تحاصره دبابات الاحتلال هناك، وفي خضم الحديث قالت لها والدتها: "الصواريخ بتنزل هان وهان.. شكلو الدور علينا قرب"، دب الخوف في قلب إيمان وأنهت حديثها بتمنيات السلامة، وكان هذا آخر حديث لهما سويًا، وبعدها انقطع الاتصال.
مين استشهد ومين عايش
وبينما تمسك هاتفها باغتتها رسالة عبر قناة إخبارية على "تليغرام"، "طائرات الاحتلال تستهدف منزل لعائلة سكيك في شارع شركة جوال بمنطقة تل الهوا جنوب غزة ووجود إصابات في المكان"؛ راسلت كل من بالبيت لكن لا أحد متصل بالإنترنت، فهاتفت ابنة عم والدتها التي تقطن بالمنطقة، فسألتها: "هاد بيت سيدو يلي انقصف صح".
فأجابتها: "نعم.. خالك محمود استشهد فقط"، وقعت على الأرض تصرخ بعلو صوتها ليأتي زوجها راكضًا، وهي تقول: "أمانة يارب لا حبيبي يا الله لا"، نصف ساعة وهي على الأرض تناجي الله أن لا يصيبهم مكروه، وزوجها ما زال يحدث قريبتها ليطمئن، سرعان ما صرخ: "اهدي يا إيمان هي إمك طلعوها عايشة والله عايشة".
لم تصدق إيمان وقتها ظنته يهدئ روعها فقط، لتخرج من انهيارها، فتقول لبنفسج: "طلبت من زوجي أن يجعلني أن أحادث أمي، فأقسم أنها بخير ولكنها الآن بطريقها للمشفى، فسألته بعدها عن أبي، فقال إنهم لا زالوا يبحثون، فقلت لهم ابحثوا عنه بجانب أمي فهو لا يفارقها، كانت أمي ترسل لي كل يوم صورتهم الصباحية وهم بجانب بعضهم البعض.
بقيت على أعصابي من العاشرة صباحًا حتى الرابعة عصرًا وأنا أنتظر خبر واحد عن أبي، منهم من يقول لي أنه استشهد ومنهم يقول أنه بخير".
كانت الساعات تمر على إيمان ثقيلة موجعة، تشعر أن ستجن من فرط الانتظار، وخلال تلك الساعات جاءها خبر أن شقيقها حذيفة كان مع والديها نازح في بيت جدها، كانت تظنه عند أهل زوجته، ولكنه كان في البيت المقصوف هو وزوجته وطفلته الوحيدة ريم، فدب صراخها المنزل من جديد.
تكمل لبنفسج: "انتشرت الأخبار عبر الفيسبوك بأسماء الشهداء، جدتي، وخالي الكبير وزوجته وأولاده الثلاثة، وخالي الأصغر وابنه، وزوجة خالي وأبنائه الثلاثة، أما المفقودين الذي لم يتم العثور عليهم أبي وشقيقي حذيفة وزوجته رنا الغصين وطفلتهما ريم".
انقطعت الاتصالات عشرة أيام
أُرهقت إيمان من حزنها الذي يكبر بمرور الدقائق، تشعر وكأنها تمسك قطعة من نار بين يديها، في مساء اليوم وبعدما أُنهكت من بكائها المتواصل، أمسكت هاتفها تتصل على هاتف والدها ووالدتها وشقيقها، عشرة أيام تحاول الوصول لهم بشتى الطرق، فتضيف: "أكثر ما أرهقني الشائعات، كل يوم كان يصلني خبرًا من الجيران أنه تخرج أصوات من تحت الأنقاض لأناس ما زالوا على قيد الحياة.
كانت صور أهلها سلوها الوحيدة التي التقتطتهم قبل عامين حين زارتهم في غزة، فهذه صورة يظهر فيها والدها وعيناه تلمع وهي يرى حفيديه من ابنته الوحيدة، فكما دللها طوال حياتها، يدلل من هم قطعة منها، وهذه والدتها التي تعيش الإبادة الآن في شمال غزة، وترتجف خوفُا عليها، منذ عام لم تعرف النوم الآمن، وكل ما تتمناه عناق لوالدتها تبكي فيها حزن العام كله.
بعد رحيل والدها قسم ظهرها، فكيف للحنون أن يرحل، بقى معها 3 سناسل ذهب كذكرى منه، ولأنه تاجر ذهب كان كلما أعجبته قطعة، وعلم أن هذا ذوق ابنته يخبئها لها في قلبه أولًا ثم يهديها إياه، أما شقيقها حذيفة فظل من رائحته سلسلة ذهب باسمها أهداها إياها منذ زمن، تردف لبنفسج: "قبل استشهاد والدي بأسبوع تقريبًا حدث انقطاع تام للاتصالات والإنترنت عن غزة.
بقيت ليومين لا أعلم شيء عنهم، في صباح اليوم الثالث أيقظني زوجي الساعة السادسة، وقال: "هي أبوكي ع الخط الاتصالات رجعت". أخذت الهاتف منه وبكيت بعنف: "ليش بتعيطي يا عروسة تخافيش الحمدالله ماراح يصير اشي واحنا بخير". وكانت تلك آخر مرة أسمع صوت حبيبي الأول".
أما عن والدتها تحكي إيمان أنها لم تسمع صوتها منذ يوم إصابتها، حدثتها يومها وبعدها انقطع الاتصال وأُخلي مشفى المعمداني التي كانت به، ولم تعلم شيء عنها لمدة شهر كامل.
هل هي بخير أم لا؟ كيف أضحت صحتها؟ تقول إيمان: "استطعت الوصول إليها بعد شهر، وحينما سمعت صوتها، انهرت بالبكاء لم أتوقف ولم استطع التحدث معها بشيء، ولم أصدق أنها لا تزال على قيد الحياة واسمع صوتها مرة أخرى، لكن الغريب أن أمي كانت قوية لا تبكي، أما بعد ٤ أشهر من الحادثة عندما أصبحت أحدثها بدأت تبكي عندما نتحدث عنهم ونذكرهم، لا نصدق حتى اليوم أننا فقدناهم".
تشعر إيمان أنها على حافة الجنون، تحاول بث الصبر في نفسها لأجل أطفالها وأمها، لكن لا تستطيع السيطرة على حزنها، رضت بقضاء الله وقدره، لكن القلب يأبى التصديق؛ تُحدث نفسها: "أنا بغربة أكيد بس ارجع على غزة حشوفهم تاني".
فرحة حذيفة بمولوده الجديد
تحكي لنا عن شقيقها حذيفة، فما زالت تذكر فرحته حينما علم بحمل زوجته قبل الحرب بأسبوع، قائلًا: رح يجي أخ جديد لبنتي ريم"، كانت الدنيا لا تسعه من فرحته، حلق في السماء هو ورنا، بكت ريم طفلته والحفيدة الوحيدة بغزة لعائلتي، إضافة لطفليَّ. تضيف لبنفسج: "لما نزلت غزة من سنتين كتير ولادي اتعلقوا بريم وحبوها، وهما لليوم مش مصدقين أنه ريم راحت.. ولا أنا كمان".
أما عن أطفالها تروي إيمان أنهم يفتقدون أبيها وأخيها، ينتظرون يوم الجمعة بفارغ الصبر ليسمعوا صوت جدهم، ليحكي معهم مكالمة فيديو مطولة ليعوضهم عن غربتهم، تردف: "منذ يوم رحيله لم يأت صباح الجمعة لأولادي ينتظرون ويرفضون التصديق، وحينما يسألوني أقول لهم: "خلص جدو راح وخالو وريم". فأجيب: "نعم". فيردون: "لأ ما ماتوا". أما حين يحدثون جدتهم يسألونها: "تاتا متى هتخلص الحرب وتيجي عنا".
فقدت رغبتها أن تعود لغزة، فلا بيت العائلة التي عاشت به عشرون عامًا ونيف، تود أن تجلب أمها وشقيقها عندها لتحتضنهم عناق المنكسر قلبه من فرط حزنه، لعله يطيب. مر عام على الفراق الأبدي وكل أملها الآن أن تخرج والدها وشقيقها وعائلته من تحت الأنقاض، والأمنية الأكبر أن يكون لهم قبرًا يُكتب عليه أسماؤهم.
"لو بدي أموت ما بسيب أمي"
أما شقيقها الطبيب عز الدين الذي تركته وهو صغير، أصبح طبيبًا مثقفًا، وما زال في نظرها آخر العنقود المدلل، تحكي عنه: " لا أنسى الاتصال عندما كان في مشفى الشفاء محاصرًا، وأوصى زوجي أحد زملائه أن لا يخبره عن استهداف العائلة، وأردنا أن نخبئ عنه الموضوع فهو في وضع لا يسمح أن نتعبه أكثر بالخبر.
لكن وبالصدفة أخي عزالدين قرأ الرسالة على هاتف صديقه وهنا علم أنه يوجد شئ نخبئه عنه وطالب بإخباره والا سيخرج الآن وهم محاصرين إلى بيت جدي". تكمل: "اتصلت به وأخبرته فقط أنهم قصفوا بيت جدي لكن أمي بخير؛ جدتنا استشهدت وخالي، وقتها لا أنسى خنقة صوته عندما سأل وأبي وأخي وزوجته وريم.
هنا كذبت عليه وأخبرته انهم على قيد الحياة لكن ننتظر الدفاع المدني يرفع عنهم الركام ويخرجهم، ولكنه لاحقًا اكتشف الأمر، وانتظر معي لأيام على أمل إنقاذهم لكن أمر الله غالب".
لم يعرف عز الدين مكان والدته، وعندما فك الحصار عن مشفى الشفاء، وقالوا لهم اذهبوا نحو الجنوب، هاتفته إيمان وقالت له: "اذهب عند خالاتي في الجنوب". فرد عليها: " لو بدي أموت مابروح عالجنوب بدون ما أشوف امي واخدها معي".
كيف نترك روحنا تحت الأنقاض
تقول إيمان لبنفسج: " أخبرته أن الوضع صعب والدبابات تحيط مشفى الشفاء ومنطقة السرايا ونحن لا نعرف أين أمي وتين نزحت بعد مستشفى المعمداني، لكنه لم يستجب لكلامنا وخرج من المستشفى ولم يذهب مع الناس إلى الجنوب، ذهب يبحث عن أمي بالشوارع والمدارس ويسأل لعل أحد يعرف أمي أين نزحت، وبعد ساعات وجدها واجتمع بها".
اتفق الابن والأم أن لا يبرحوا محافظة غزة، ورفضوا طلب إيمان بعد استشهاد والدها وشقيقها، بأن يأتوا للجنوب حتى تستطيع إخراجهم عندها بتركيا، لكنهما رفضا وقالوا: "كيف نترك روحنا تحت الأنقاض ونغادر".