كانت نورا الجعبري تعلم علم اليقين أن زواجها برجل مطلوب للاحتلال مجازفة، فقبلت به عن حب وطيب خاطر، مستعدةَ أن تدفع فاتورة لقب زوجة "المقاوم المطارد"، ومن وجهة نظرها لا أبهى أن تختارين رجل مقاتل في سبيل الله وأنت تعرفين جيدًا أنه لربما يزف شهيدًا للعلياء، أو أسيرًا يقضي جل حياته في الزنازين الإسرائيلية.
لم تكن أبدًا حياتهما معًا عادية، انتظرته 23 عامًا، رفقة ابنها الذي كان في أحشائها عند اعتقاله في عام 2002. لم تعش معه سوى شهرين كان رجلًا مطاردًا، فذاع اسمه "محمد أبو وردة" في عمليات الثأر المقدس الذي أطلقتها كتائب عز الدين القسام الجناح العسكري لحركة "حماس"، ردًا على اغتيال يحيى عياش.
الأسير محمد أبو وردة حرًا

بعد عامين من الاعتقال وبينما زوجته نورا تجاهد لأجل أن تكون أبًا وأمًا لطفلها، وتقاتل لأجل زيارة مطولة تزيل شوقها المتجدد، حكم عليه بـ 48 مؤبدًا بتهمة قتل 45 صهيونيًا، وبذلك يكون صاحب أعلى ثالث حكم في سجون الاحتلال الإسرائيلي. ومن أبرز عملياته سلسلة تفجيرات عام 1996، ومنها عملية تفجير على خط الحافلات رقم 18 في القدس وآخر بالقرب من عسقلان.
وعندما حكم الاحتلال على محمد بعدة مؤبدات في العام 2004، قال "نحن لسنا القتلة، نحن من لنا الحق في هذه الأرض ويجب أن تحاكموا. لن ينتهي نضالنا ضدكم أبدًا، بل على العكس من ذلك. سنصمد ونكون مصممين حتى تغادروا أرضنا. يمكنك أن تعطي وتأخذ، أي عدد آخر من أحكام المؤبد كما تريد، وأيضًا حكم الإعدام. لا يهمني".
والآن وبعد ما يقارب ربع قرن من الاعتقال والتنكيل، خرج محمد أبو وردة من الزنازين الإسرائيلية لتغني عائلته: "زينوا ساحات الدار"، ولكن الاحتلال نغص فرحتهم ليبعدوه إلى غزة، فعلق بثبات قائلًا: "على الرغم من إبعادي إلا أنني موجود في داري عند أهل غزة". وصف الرجل المبعد عن داره سنوات الاعتقال بالظالمة القاسية، مشددًا عن أنه منذ سنة ونصف زاد الاحتلال في وحشيته وتنكيله في الأسرى الفلسطينيين.
اقرأ أيضًا: نورا ومحمد.. 48 مؤبدًا بميثاقِ حُبٍّ وانتظار
وعلى الرغم من عدم وجود دليل على بزوغ شمس الحرية إلا أن محمد كان لديه يقين بأن فجر الحرية آت، ويوم تحرره قال إن الإيمان بالله واليقين بلطفه وحكمته هو ما يجعله صابرًا محتسبًا لا يفقد أمله مهما مرت السنوات، ثم إيمانه بالمقاومة وعهدها للأسرى أن يوم حريتهم سيأتي لا محالة وهو صدق الوعد، فتحقق. كان محمد طوال العام والنصف من حرب غزة يتابع ورفاقه الأسرى الأخبار، ويتألمون لوجع غزة، ويخصونها بالدعاء كل ليلة، والآن هو في قلب غزة مبعدًا عن عائلته، فعقب: "يقولون إنه إبعاد لكن روحي في غزة".
لا يعلم محمد الذي لم ير ابنه حمزة إلا من وراء قضبان السجن ما الذي تحمله الأيام القادمة، فالمجهول هو سمة الآتي، ويدعو الله مع ابنه حمزة وزوجته نورا أن يلتقيا في القريب العاجل ليعوضا سنين الحرمان والشوق، ولتردد نورا بيت الشعر الذي كانت تردده في غياب زوجها: "وقد يجمعُ الله الشتيتين بعدما يظنَّان كل الظنِّ ألَا تلاقيا".