بنفسج

الأسيرة المحررة زينة بربر: ابنة القدس المهددة بالإبعاد

الأربعاء 19 فبراير

الأسيرة المحررة زينة بربر
الأسيرة المحررة زينة بربر

بين اعتقالين وحريتين وتهديد بالإبعاد، تقع زينة بربر وأباها مجد بربر. الأسيرة المحررة زينة بربر، حررتها صفقة تبادل الأسرى إبان حرب الطوفان التي أُبرمت في دفعة التبادل في شهر كانون الثاني/ يناير 2025، وهي التي اعتُقلت في 9 تموز/ يوليو 2024 بتهمة التحريض على الإرهاب. أما أبوها مجد بربر فقد أنهى مدة حكمه بعد أن قضى 21 عامًا في الأسر. وهذا تقرير يجمع بين زينة بربر الأسير المحررة ووالدها مجد بربر الذي قضى أعوامًا داخل الأسر، في تشارك التجربتين ومآلتيهما عليهما، وهما اللذان يقطنان في القدس منذ عهد الطفولة.

| 14 يومًا في تحقيق المسكوبية

زينة بربر

 اعتُقلت زينة من قلب باحات المسجد الأقصى، فلم تودع أهلها حين الاعتقال، ولكنها تعتبر نفسها محظوظة لأن آخر شهودها كانت شوارع القدس، فطبعت في ذاكرتها القدس وتفاصيلها حتى أثناء المسير إلى السجن.

أنهكتها الـ 14 يومًا من التحقيق في مركز المسكوبية ، ثم نقلت إلى سجن الدامون، حيث تعرضت للتعذيب هي من داخل المعتقل، وكذلك يتعرض أهلها وذويها للتنكيل والتخريب والتعذيب خارج المعتقل. وقد أفرج عنها في كانون الثاني/ يناير المنصرم لكنها لا زالت تعاني من تنغصيات الاحتلال، والمداهمة المتواصلة لبيتهم في بلدة سلوان بالقدس.

وحاليًا، تواجه زينة قرار الإبعاد الذي تسلمته من سلطات الاحتلال، فلم تعد إلى القدس إلا منذ أيام قليلة، وأول ما توجهت له كان "مطل الأقصى"، لترى الأقصى عن قرب، ومع قرار الإبعاد الذي تسلمته مؤخرًا لا تعلم إلى أين ستذهب: هل إلى الضفة، أم غزة، أم خارج البلاد، ولا هي ابنة القدس، تستوعب فكرة النفي عن العائلة وبلاد المنشأ، إذ ستُسحب بطاقتها الشخصية منها، ولا سقف لهذا الإبعاد، إذ كما يقول البعض ربما يمتد إلى عشر سنوات.

| صورة بعد 16 عامًا من الأسر

الأسير المحرر مجد بربر.jpg

هتفت في طفولتها "حرية حرية"، وكانت تعي معنى أن يكون المرء حرًا لا تنغص راحته أسوار ولا جنود، عهدت أشياءً لا يدركها أطفال العالم، فأن تكون ابنة أسير لأكثر من 21 عامًا، فتتعلم الصبر على مهل. صادقت الأمل حتى يأتي يوم تكحل عينيها برؤيته عن قرب، وحينما تحرر الأب اعتُقلت الابنة، إذ لم ينعتق الاثنان من رحم الأسر والاعتقال إلا بين خوف وشكوك وتردد بالإبعاد والتهديد به.

عندما اعتُقل مجد بربر في عام 2001، والدها، كانت مولودة جديدة، فلم يكن يحفظ ملامحها بعد، إذ حُكم عليه بالسجن، لتظل زوجته بانتظاره تربي طفليها: منتصر وزينة. مرت الأعوام حتى صار عمر زينة 16 عامًا، وطوال السنوات الفائتة لم تعرف والدها إلا بالصور، وحكايات والدتها والأصدقاء، حلمت بيوم اللقاء لسنوات، وكتبت مئات الرسائل له ولأجله وهو كذلك، كتب لها كلمات خطها بصوت القلب، فاحتفظت بها حتى اللحظة.

في عمر 16 عامًا كانت اللحظة الحاسمة في حياتها إذ ستلتقي اليوم بوالدها الذي لم تره أبدًا في حياتها، ستنظر إلى عينيه عن قرب، ستشاهد لونهما الحقيقي وليس عن طريق الصور، ستلمس تجاعيد وجهه، وتحفظ تقاسيم الوجه، ارتدت أجمل ما عندها، وركضت نحو سجن الشارون لتلتقيه هناك لأول مرة، وتلتقط الصورة الأولى لها معه، أو دعونا نسميها الثانية فقد سبقها صورة أولى وهي مولودة تبلغ من العمر أيامًا.


اقرأ أيضًا: شاتيلا أبو عيادة: الأسيرة الأقدم والأعلى حُكمًا تنتظر الحرية


كان اللقاء مهيبًا مبكيًا، احتضنها وحملها بين يديه كطفلة لم تبلغ الخامسة بعد، بكت هي وبكى هو سنين الفرقة، ومن بعدها صارت تعرف الطريق نحو السجون، تزوره باستمرار، وتمده بالأمل، بأن الفجر حتمًا لآت، فينظر لها مبهورًا: متى كبرت صغيرتي التي سرقوني منها، ينظر إليها بتعمن يخاف أن تنسيه مرارة السجون شكلها الجديد.

نجحت في الثانوية العامة ودرست بكالوريوس الاقتصاد، واشتغلت في بنك القاهرة عمان لمدة 3 أشهر، ولكنها فُصلت بشكل تعسفي بسبب عدم نيلها شهادة حسن سير وسلوك بعد مقابلتها مع المخابرات، ولم يُسمح لها العمل في قطاع البنوك، فأحبطت ولكنها لم تفقد أملها.

فلنعد بالزمن قليلًا إلى عام 2021، عندما عادت الليالي الملاح إلى البيت بعد 21 عامًا من البعد والاشتياق، لتذكر يوم أن كانت زميلاتها يقفن في آبائهن في ساحة المدرسة وهي لوحدها، ويوم أن كانت تشترك بعروض الدبكة، والعروض الموسيقية، وتتمنى أن تلمح وجهه وسط الحضور لكن لا تراه.

حدثته يوم أن طلبوا منها أن ترسم رسمة، فرسمت زرافة وبجانبها سجن كبير بأسوار عاتية، وحينما سألوها عن المعنى، أخبرتهم أن والدها بداخل السجن والزرافة برقبتها الطويلة ستتعدى حتمًا الأسوار وترى والدها لتطمئنها عليه.

| نشتاق إلى السماء

زينة بربر من مدينة القدس.jpg
 

عاشت لأشهر داخل السجون فشعرت بأنها ستنهار حتمًا، ولكنها تخجل أن تفعلها في ظل ما حولها من أسيرات بأحكام عالية. عاشت مع الأسيرات لتوطد علاقتهن بهن، يبكين ويفرحن معًا، يتشاركن الملابس الشحيحة، والطعام، يفكرن بشكل جماعي، ويتعاون في أبسط الأمور، وعن إحدى الليالي الباردة تستذكر يوم تشاركت غطاءها مع إحدى زميلات الأسر، فنامتا بجانب بعضهن ويتشاركا الغطاء.

اشتاقت أن ترى السماء عن قرب، كانت مع الأسيرات قرب نافذة السجن المغطاة بالشبك، يقتربن من النافذة ينعمن بلفتة إلى السماء، وفي حال رأت إحداهن القمر من خلف الشبك، صرخت بعلو الصوت: هي القمر صبايا هي القمر، فيتجمعن فوق بعضهن البعض، ويلمحن القمر من خلف الشبك الفاصل، أما يوم المطر من يدعين الله أن ينهمر المطر وهن في الفورة "الخروج للخارج" ليتبلنن به ويشمن الرائحة المخلوطة بالتراب.


اقرأ أيضًا: محمد أبو وردة: حرية وإبعاد ولقاءات مؤجلة


كوّنت زينة صداقات حقيقة داخل الأسر، تعلمت أشياء لم تعلمها إياها الحياة، عندما أُعلن عن الصفقة كانت رفقة الأسيرة شاتيلا أبو عيادة، وآية الخطيب، الأعلى حكمًا في السجن، تخبرهن عن حزنها لمفارقتهن، كان شعورًا مختلطًا فهي على وشك الحرية لكن صديقاتها في الداخل سيبقين، تمنت لو أنها تستطيع أن تضمهن لينلن الحرية رفقتها، فأخبرنها بأنهن قويات وسينتظرن يوم الحرية بفارغ الصبر.

| طوفان الأحرار: يوم الحرية

الأسيرة المحررة زينة بربر

في يوم 19 يناير 2025، رأت السماء دون فواصل، فنادت على دانيا حناتشة زمليتها المكلبشة جانبها، قائلة: "دانيا واو هي السما.. دانيا شوفي السما". بعدها جاءها والدها ليصطحبها إلى البيت، رأته عند المسكوبية لكنها لم تستطع أن تعانقه، لماذا، ببساطة لأنه ممنوع، أيعقل هذا والدها أمامها تشتاقه ولا تستطيع أن تقفز بين أحضانه، كان جالسًا بجانبها بالسيارة ولا يستطيع محادثتها، كانت تنظر إلى الأقصى وتبتسم فشاهدها هو وسعد لحريتها، وتمنى أن ترى عينيها سوى الجمال.

وصلت إلى البيت فأدخلها الجنود وأغلقوا الباب، ليمنعوا أي لقاء أو احتفال بالحرية، لتعانق والدتها السيدة الصبورة البطلة كما تلقبها زينة، لم تسلم بعد التحرر من التنكيل، هاجموا البيت مرات عدة، ويكسروا كل محتوياته.

ما زال الاحتلال ينغص الحياة على زينة ويمهلها مدة لتخلي مدينة القدس، وليس وحدها من تعاني من تنكيل الاحتلال المتواصل لها، إذ يتعمد الجيش مداهمة بيوت الأسرى المحررين وتخريبها والتنيكل بهم.