بنفسج

حول التعليم: في حاجتنا إلى خطابين

الخميس 18 يونيو

على مدى تعاقب الأجيال البشرية، أنتجت المجتمعات البشرية إرثاً مركبا من العادات والممارسات التي تنبثق منها الهندسة المجتمعية المنظمة لحياة الناس في تجمعاتهم وأماكنهم المختلفة، والتي وإن اختلفت في ظروفها وهيئاتها إلا أنها تشترك في أهمية وجود نظام تعليمي تربوي قادر على مساعدة الأسرة على تقديم الرعاية والتنشئة السليمة لأطفالهم.

فمسألة التربية والتعليم من المسائل التي تتشابك فيها عدة أطراف مسؤولة، ويكاد يتأثر منها وبها كافة الناس، وكما يقول المثل الغربي: "أنت تحتاج إلى جهود قرية كاملة لتربية طفلٍ واحد". خلال سنوات عملي في مجال التعليم واهتمامي المتواصل ومتابعتي وكتابتي حول قضايا التعليم، كنت دائمًا أواجَه بسؤال يستبطن بتهمة الانفصام لدي فيما يخص هذه المسألة، فبعض ما أكتبه يوحي برفضي التام لمنظومة التعليم المدرسي والدعوة لتغييرها كاملة، وبعض الكتابات والتعليقات لا تعدو كونها نصائح وتوجيهات لتطبيع الطالب أو الوالدين مع هذه المنظومة والتعامل السوي معها. والواقع أنني أفترض ضرورة وجود خطابين أرى أنهما ضروريان في مرحلتنا ولا يغني أحدهما عن الآخر.

الخطاب الأول موجهٌ إلى الذين وجدوا أنفسهم أمام استحقاق إرسال أبنائهم وبناتهم إلى الروضة فالمدرسة فالجامعات بلا خيارات مؤسسية جيدة ولا بدائل تعليمية غير مدرسية معتبرة. هؤلاء الآباء والأمَّهات الذين لا يملكون رفاهية الاختيار بين بدائل بل هم مجبرون على إيقاظ أبنائهم كل يوم الساعة السابعة صباحًا وإثقال كاهلهم بحقاب لا تتسع لأحلامهم، محملين بالكثيرمن آمال التوفيق والنجاح في الهرولة وراء أحلام ومستقبلٍ يقفون فيه على منصةٍ كبيرة يستلمون فيها شهادة الروضة فالمدرسة فالجامعة وهم مبتهجون فرحون بها، حتى وإن كانت هذه الشهادات بلا فائدة ولا طعم ولا رائحة!

هؤلاء، وهم غالبية أفراد المجتمع، لا يملكون - الآن- بديلًا، ولا يظهر أننا أمام وجوده في المستقبل القريب في ظل واقعنا الفلسطيني المعقد في ظل الاحتلال من ناحية، وظل النظام السياسي والإداري الذي وجدنا أنفسنا عالقين فيه بعد أوسلو. السؤال إذن؛ ما الذي يمكن أن نخاطِب به هؤلاء الأمَّهات والآباء المجبرين على توجيه أطفالهم إلى المدرسة في يومهم الأول والفرحون بشهادة تحمل علامات التفوق وعبارات الثناء؟ 

في الواقع ليس لنا إلا أن نخاطبهم بما يطيقون، فنوجههم إلى فهم طبيعة المدرسة وفهم طبيعة النظام وربما بعض الأفكار حول ما أوصلنا إلى هنا. ونخاطبهم كذلك بضرورة السعي الجاد في تحقيق أكبر استفادة من المدرسة بأقل قدر من الخسائر النفسية والصحية والعقلية. ونسعى إلى تجنيب أبنائنا الخسائر الكبيرة التي يمكن أن تلحق بهم في حال لم ينتبه أولياء الأمور ولم يتابعوا أبناءهم حيالها.

| التعليم: كيف نُحسن الواقع ونخطط لمستقبل أفضل؟

ليكون خطابنا حول التعليم مثمرا على المدى القريب والبعيد، لابد أن يستوعب الواقع  ومن ثم يسعى لتجاوزه لمستقبل أفضل. فعلينا أن تستوعب فكرة " اللاخيار" التي تُلزم الأغلبية العظمى من إرسال أطفالهم إلى المدارس الحكومية.
 
وعلى المدى البعيد فعلى المثقفين وصُناع الرأي ألا يملوا من التذكير بطبيعة النظام التعليمي ومشكلاته الكامنة في أصل تكوينه، الأمر الذي سيساعد في خلق رؤى وبدائل تعليمية جديدة.

يجب أن يكون الخطاب الموجه لهؤلاء الأمَّهات والآباء المجبرين على توجيه أطفالهم إلى المدرسة مرتكز على 3 ركائز أساسية. هي:

الأولى: تحقيق أكبر استفادة ممكنة من النظام القائم من خلال الاستفادة من الكوادر التعليمية المثقفة المخلصة والتواصل معها من أجل بناء علاقة طيبة وغرس أفضل ما يمكن غرسه في قلوب أطفالنا من قيم طيبة وحب التعلم والحرص عليه.

| الثانية: بناء شخصية الطفل والحرص الكامل على تطويرها قدر الإمكان؛ من خلال متابعة علاقات الطالب ومجتمعه الذي يقوم ببنائه، وتنمية قدراته الشخصية كالإلقاء والاستماع والقيادة والبحث بما أمكن من وسائل متاحة.

| الثالثة: حماية الطفل من الأذى النفسي الذي قد يلحق به من التركيز الشديد على العلامة أو الاستجابة السلبية للكوادر التعليمية السلبية أو الطلبة غير الأسوياء. وبهذه الأركان الثلاثة وما يدور حولها من أفكار كثيرة ومهمة وأساسية، نسعى إلى تجنيب أبنائنا وبناتنا الخسائر الكبيرة التي يمكن أن تلحق بهم في حال لم ينتبه أولياء الأمور ولم يتابعوا أبناءهم حيالها.

الخطاب الثاني هو خطابنا للمثقفين والمؤثرين وأصحاب الرأي والقلم. وهو خطاب قائم بركنين أساسين: الأول: هو التذكير الدائم بطبيعة هذا النظام وتأصيل بنائه. والثاني: هو بحثٌ عن بدائل مقنعة.  فحتى نستطيع خلق خطاب بديل قادر على تحسين نظام التعليم، يجب العودة للبداية والتذكير الدائم بطبيعة هذا النظام الذي لم يكن من اختيارنا كمجتمع وكأمة ولم يكن ضمن نتاجات تطورنا الطبيعي وحاجاتنا الذاتية، وإنما ناتج عن أسباب مختلفة تتداخل بين صراعنا مع المستعمر وصراعاتنا الداخلية أيديولوجيًا ومعرفيًا عبر الفترات الزمنية المختلفة.


اقرأ أيضًا: " ابني لا يجيد القراءة والكتابة ": أين الخلل وما الحل؟


أما عن الركن الثاني فنؤكد على أن نقد بنية هذا التعليم تستلزم بالضرورة البحث عن بدائل مقنعة، تساير التطور العلمي على كوكبنا وتلبي حاجاتنا كأمة لها رؤيتها المتميزة ورسالتها التي تؤمن أنها جزء من قيمها الكبرى الناظمة لمسيرتها. هذا الخطاب يعمل في سياق الفلسفة والتنظير كما يعمل في سياق نبش التاريخ ونقد الواقع. وفي صلبه هو خطابٍ نقدي خالص يعمل على هدم بنية النظام التعليمي القائم بكليِّته وبناء نظام تعليمي آخر مختلف جوهريًا في رؤيته وأهدافه وأساليبه.

  الزمان لا يتوقف، والمدارس القائمة وبنية النظام التعليمي التي ورثناها لا يمكن أن تختفي بين ليلة وضحاها.كما لا يمكن للإنسان العاقل أن يكتفي بنقد بعض الظواهر والمظاهر دون أن يحاول أن يضع خطًا موازيًا يهدم منظومة فاسدة مفسدة مدمِّرة، ويسعى بكل ما أوتي من قوة وينقِّب بكل ما أوتي من جهد عن بديل حضاري قد يأتي يوم قريب ويكون هو مدخلنا للتغيير الكامل لكل المنظومة التعليمية القائمة، لأننا كأمةٍ -بلا شك- نعيش واحدةً من أكثر لحظاتنا المتغيرة في تاريخنا المعاصر، ولنكن متجهزين لما بعدها.