بنفسج

" طبخات فلسطينية": تضرب بجذور الأرض وتُزيّن الموائد

الأربعاء 20 يوليو

هَل هناك أَشْهى مِن رائحة المسَخن الفِلسطينيّ ودجاجِه المَغمُوس بزيتِ الزيتون، عَلامة الأصَالة الفلسطينية، تفوحُ منه رائحة الزيت والبصلِ والسُماق، وتُزينه حبات اللّوز المُقلاة باللون القرميديّ الأخّاذ؟ وما أدراكَ عن حلّة تُقلَب أمامك مِن أرز المَقلوبة الأصْفر المُتبل بقطعِ الخُضار واللُحوم ما لذّ مِنها وطَاب! وماذا عن طبق من السماقية الغزاوية المُسبّكة، يزيدها لحم الضأن والفلفل الحار لذّة لا توصف، ثمَّ ماذا عن المحاشي بأصنافهِ وأنواعِه، منها ورق العِنب "الدوالي" المحشو بالأرز ذي "التتبيلة" السريّة الساحرة عندما تَرتص قطعه في طبقِ لا مَثيل لمذاقه الخرافيّ أبدًا.

| أكلة الفتح

2.png

المُدهش في الأكلات الفلسطينية الأصِيلة أن لها جذور تاريخية ممتدة؛ ومع ذلك، فهي لم تزل حاضرة بقوة، وشائعة حتى يومنا هذا، يُفضلها جيل الوجبات السريعة وتقع في غرامها فتيات "الاسنيتشل" والأكلات الغربية على اختلافها، تقول المرابطة المقدسية هنادي الحلواني عن المقلوبة الفلسطينية: "هذه أكلة فتح بيت المقدس، عُرِفت على زمن صلاح الدين الأيوبي باسم الباذنجية، فالباذنجان من مكوناتها الأساسية، وفي زمن الأتراك، أضافوا لها اللحوم وسُميت بمقلوبة النصر".

ويشيع لدى الفلسطينيون قلب المقلوبة أمام الضيف إغداقًا في التقدير له، وهي تطبخ أسبوعيًا إلى حدٍ ما، صيفًا شتاءً، وتروي الحاجة فتيحة العلي (76 عام) طريقة التقديم المميزة هذه بقولها: "نرص اللحم في قاع الحلة، يتبعه الخضار والحمص والأرز، وعند تمام النضج نقلب الحلة في إناء بحيث يكون اللحم المُحمر على السطح والأرز الذهبي اللون في الأسفل"، وذلك في مشهدٍ يبدو للرائي لا يُقاوم جمالًا وشهيةً.

وتُطبَخ المقلوبة المُكونة من الأرز واللحوم سواء دجاج أو لحم ضأن، إذ كانت تطبخ قديمًا باللحم غالبًا واسُتُحدِث استبداله بالدجاج"، وكذلك الحمص وهو مُكوَّن مهم فيها، وأيضًا الخضار المقليّة التي تُمثل سرّ الأكلة بما تشمله من بندورة وبصل وبطاطا وزهرة وباذنجان، حيث تروي العلي أنه كلما كانت "التحبيشة أكثر" في إشارة للخضار مُسبكة بشكلٍ أكبر، كلما كان مذاق المقلوبة أكثر لذة.

| إرث فلسطيني

3.png

وفي موسم قطاف الزيتون ودرسه، وبركة زيت الزيتون الفلسطيني المُعبّق برائحة هذه الشجرةِ العريقة، يزداد تحضير أكلة المسخن الفلسطينية التي تعكس الإرث المطبخي الفلسطيني متمثلًا برغيف الطابون وزيت الزيتون، والتي تشتهر فيها الضفة الغربية أكثر من غزة، هذه الأكلة _التي تدمع زيتًا_ وحدها "حكاية" تنال أوسمة في مذاقها وأصالة جذورها وشعبيتها العظيمة حيث تُحضر من أبسط المُكونات وأسلسها، لكن لرائحتها في الذاكرة مكان لا يُنسى أبدًا.

المسخن، فلسطينيّ بامتياز، وهو موغل القِدم، ولا يختلف اثنين على مذاقه شيبًا أو شُبانًا، ولإعداده، يلزم بلا شك الزيت والكثير من البصل الأحمر الذي يُعد عامود الأكلة، وكذلك الوفير من السماق المطحون، وكما تقول الحاجة فاطمة زيادة: "اسخي على السماق، كل ما زدت منه كل ما كان أشهى"، وعدد من أرغفة خبز الطابون يُغمس بالزيت المخلوط بمرق الدجاج والمُتبل بالبصل والمساق، ويُحمر الطبق كاملًا في الفرن، ثم حدِثوا الأجيال عن مذاق قطعة مقرمشة من طرفه.

ومهما كنت مُصرًا على اتباع أسس الاتيكيت، فإن المسخن لا يؤكل إلا بأصابع اليد، وقد تحتاج إلى جانبه شيء من اللبن يُضفي على المذاق الحامض اللاذع من السماق والبصل بردًا وسلامًا ويزيده شهيّة.

وقد لا تنسى زيادة المشهد القديم في تحضير المسخن الفلسطيني عندما تخبز خبز طابونه المُدّخن على الحطب، ثم تغمره يديها المجعدة في إناء البصل المتبل بالسماق والزيت وشيء من المرق، يُرص في صينية الشواء، يعلوه طبقات من الخليط، وفوقه الدجاج الذي أخذ قسطًا من مذاق المزيج آنفًا بالطبع، ثم يُزين بحبات الصنوبر أو اللوز ويُحمّر في فرن الطين، فتجوب رائحته الأرجاء وتزور سبع حارات.

ومهما كنت مُصرًا على اتباع أسس الاتيكيت، فإن المسخن لا يؤكل إلا بأصابع اليد، وقد تحتاج إلى جانبه شيء من اللبن يُضفي على المذاق الحامض اللاذع من السماق والبصل بردًا وسلامًا ويزيده شهيّة، ويزداد إعداده في موسم الزيت وفي شهر رمضان المبارك كذلك، يضاف إلى مائدته شوربة الفريكة اللذيذة التي أعدت بالتأكيد من مرقِ دجاجه، وإذا ما أعددت المسخن يومًا فلن تفارقك قنينة الماء في باقي نهارك من ذلك اليوم، فإن في مذاقه من العطش اللذيذ ما لن تدعه يفوتك.

| محبوبة الجماهير

1.png

ويشترك السماق في أكلة أخرى لا تقل شعبية عن المسخن، وهي السماقية محبوبة الجماهير، هذه الأكلة فلسطينية أصلًا وفصلًا يزيد عمرها عن مئات السنين وتكثر شعبيتها في قطاع غزة بشكلٍ لافت عن باقي المدن الفلسطينية، وفي حقيقة الأمر إن ليس كل طاهٍ يمكنه صنع السماقية، وإن كانت المكونات واحدة، والمقادير متشابهة، إلا أنَّ المذاق سيختلف، فهي بحاجة لأنامل محترفة تُقدّر قيمة كل إضافة أو نقصان في مكوناتها، وتُعدها على الأصول الفلسطينية الغزاوية.

ويُطلق على السماقية اسم "طبخة الأفراح"، فهي رمز فلسطيني لطبق مُبهج إلا أنها تطبخ في مُختلف المناسبات السعيدة والحزينة منها الأعياد، لاسيما عيد الفطر السعيد، والأفراح والسهرات، وتحديدًا حفلات توديع العزوبية، وكذلك في أيام العزاء والمآتم، وهي طبق يجمع في مذاقه بين السماق والفلفل الحار اللذين يُخففا أو يُثقلا بحسب الرغبة، لكن في الغالب يكون مذاقهما بارزًا ويُخفَف بزيت الزيتون الذي يُضفي جمالًا أخّاذًا.

4.png

المكونات تسردهم الستينية أم ماجد شملخ، فهم بجانب السماق والسلق ولحم الضأن الرئيسين: بصل، طحينة حمراء، عين الجرادة، حمص، دقيق أبيض، فلفل أخضر، شطة حمراء، ملح، ثوم وزيت زيتون، وتقول: "إن إعداد هذه الأكلة يحتاج أيدٍ عاملة، وفي العادة تجتمع النسوة لصنعها وتأخذ نهارًا كاملًا في التجهيز والطهو، وبعد سكب مزيجها الساحر في الآنية، تؤكل في أجواء جماعية، حيث تُغمّس بالخبز البلدي وبجانبها المُخللات والزيتون الأخضر والزيت في مذاق ستشتهيه كثيرًا.

إن هذه الأكلات وغيرها كالمحاشي والدوالي والفلافل والكثير أيضًا، ساهمت بشكلٍ أو بآخر في صنع الهوية الفلسطينية، وتشكيل بُنية أساسية للإرث المطبخي الفلسطيني الذي يتنوع بحسبِ جغرافية فلسطينية الساحلية والجبلية، وطبيعة المزروعات والنباتات التي تشتهر بها كل منطقة عن أخرى، لكنها تشترك في النهاية برسم صورة فلسطينية مكتملة تضرب بأصالتها جذور الأرض، وتُحدد معالم الميراث الشعبي الفلسطيني.