بنفسج

فداء حداد... طعامها "لوحات" لا يُشبع منها

الخميس 11 يونيو

حين تتذوق بعينيك، حلاوة حبّات الرمان المتناثرة في كأسٍ فضي عتيق، وتشم رائحة البرتقال الفوّاحة من الكعكة الإسفنجية مع كأس شاي ساخن ذات صباحٍ ربيعي، وعندما يسيل لعابك ما أن ترى الشوكولاتة الذائبة على حلوى "الباونتي" بصحبة فنِجان قهوةٍ تحت ظلال شجرة في حديقة المنزل، وحين يُصادفك عِناق الفاكهة الملونة بعضها البعض في كأسٍ شفاف؛ فتشعر أنه لا يروي ظمأك مشروبًا كما يفعل "ماهيتو الفراولة" المنعش.

وحين تتسلل رائحة شواء الذرة إليك مع خليط الجبنة والزبدة والبابريكا؛ تعلوها قطرات الليمون الحامض. وكلما مكثت أكثر في مطبخها ستستدرجك عيناك لتسمع زقزقة عصافير معدتك أمام مجبوس الدجاج والأرز الملوّن كألوان الطيف، على أطرافه الزبيب والبصل، وغيرها من الأطباق الشهيّة التي تلتهمها العين أولاً. الجانب الجميل في الحكاية التي تقصها مراسلة "بنفسج" أن من أوجدت فينا شعور التهام صورها الشهّية، أبكت أمها حين وضعتها؛ لأنها البنت الخامسة، لكنّها ما لبثت الآن تُفاخر بها العالمين.

ليست طباخة ماهرة فحسب، بل مصورة محترفة؛ صنعت ذائقة جمالية لاقت إعجاب الكثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي، فداء حداد (34 عاما) ابنة مدينة الخليل، متزوجة ولديها ثلاثة أبناء، ومقيمة بالسعودية. أنهت دراسة البرمجيات وقواعد البيانات، واحترفت التصوير منذ ثلاث سنوات، وتعمل حاليا منسقة ومصورة طعام لدى شركة بوك العالمية.

 | "اختفي فوراً!"

q1 (1).png
 

في هذا الحوار الهاتفي الممتع، قرعنا أبواب ذاكرة حداد، تحدثنا طويلاً حتى عرفنا السر المختبئ الذي حوّلها من امرأة "ما بتعرف تقلي البيضة" إلى مُحترفة في إعداد وتصوير الطعام بأنواعه. قبل الزواج لم تكن تعِرف عن أسرار الطبخ شيئا؛ ذلك أن فداء هي "رقم خمسة" بين أخواتها وهذا أعفاها من الكثير من المهمات بما فيها تطوير علاقتها بالمطبخ؛ عدا عن ظروف عملها في برمجة البيانات والعمل لساعات طويلة أيضا لم يساعدها في التفكير بشيء غير الراحة من إرهاق العمل عند العودة إلى البيت.

بنبرة ضاحكة تقول في بداية حديثها لـ بنفسج: "جرّبت ذات مرة أن أُساعد أمي في إعداد ورق العنب، لكني فشلت من أول ورقة حاولت لفّها، فطردتني أمي بقولها "اختفي فوراً من أمامي". ذلك الدلال والاعتماد الكامل على الأم في إعداد الطعام، لم يدم طويلا، فقد تقدم شاب مغترب لخطبة فداء من أهلها، وتمّ النصيب، وكان على الفتاة المدللة أن تُجهز نفسها لمرحلة جديدة تكون فيها ربان السفينة. كتبت لها والدتها الذواقة والتي تمتلك حسًا في فنون الطبخ؛ في دفتر صغير وصفات لأكلات تقليدية بأدق التفاصيل، لكن هذه الذخيرة ضاعت من ابنتها بعد وصولها السعودية.

تستذكر معنا تلك المرحلة: "في السنوات الأولى من زواجي عانيت كثيرًا، لم أكن أتوقف عن البحث في الكتب والمجلات، واشتريت كتاب اسمه "أسرار الطبخ العربي" لكن غالبا "ما كانت تزبط معي"، وإذا ما نجحت في طبخة فإنني أُكررها مرتين بالأسبوع حتى أتمكن منها كــ "المجدرة" مثلاً". هناك تعرفت فداء على جارة سورية لها، كانت تُرشدها وتُعطيها بعض الوصفات بتفاصيلها، ثم أضافتها على "جروبات" خاصة بإعداد الطعام على "فيس بوك"، ومن هناك بدأت تظهر موهبتها بالتدريج، حتى فُتح المجال أمامها للتنويع والبحث عن أكلات غير تقليدية.

 | بداية الشغف

q2 (1).png
 

صار محرك البحث على الإنترنت صديقًا يُسعف فداء يوميا، تستند إليه كلما احتاجته تقضي فيه أوقات فراغها، ثم أخذت تتجه نحو مدونات أجنبية تختص بالطعام، كانت تُغريها هيئة الصور، بما تحويها من تزيين وتنسيق وإضاءة، كما لو أنها لوحة فنية. وتتابع الحديث: "من حيث لا أدري وجدتني أنجذب إلى كل ما يخص تزيين الطعام، فبدأت أقرأ وأتابع وأشاهد فيديوهات في هذا المجال، وكنت أحاول تقليد بعض الصور لأتأكد من مدى قدرتي على النجاح".

مرة بعد أخرى شعرت بتطور كبير في هذا المجال، وأصبح الأمر يُلازم عقلها؛ فعملت عليه بكل ما أُوتيت من إمكانيات، ودربت نفسها، دون ورش عمل أو دورات، بل بالتعلّم الذاتي. المصورة حداد تعتقد أن التقليد ليس عيبا أبداً، لا سيما إذا ما كنت مصوراً مبتدئاً. فتقليد صورة لأحد المصورين المشهورين ومحاولة إخراجها نسخة مشابهة للأصلية، ستساعدك على تعلم تقنيات ومفاهيم جديدة والنظر للصورة بشكل مختلف؛ حسب رأيها.

وبعد عامين من بداية المشوار تحوّلت من مصورة مبتدئة إلى محترفة، فهل كانت تمتلك أدوات خاصة بالتصوير؟ تجيب: "لم أشترِ أدوات خاصة إلا بعدما تمكنت من التصوير، أما من قبل ذلك فكنت أستخدم أغراضي المنزلية، واعتمد على إضاءته الاعتيادية". وقد يتساءل المرء إذا ما كان هناك سر بالفطرة وُجد في شخصية "ضيفتنا" منذ الصغِر مكنّها من الاحتراف سواء في تزيين الطعام أو تصويره؟ الجواب نعم، فهي إنسانة تهتم بالألوان وتنسيقها، وبالألوان المُبهجة تنثر أجواء الفرح حولها، وهذا ما ساعدها لاحقًا.

 | تفاصيل صغيرة

q19.png
 

ولم يجل في خاطر فداء يوماً ما أن يتحول هذا الشغف لمهنة ومصدر رزق، كل ما في الأمر أنها تلبي رغبة بداخلها، وهذا ما فاجأها حين تواصلت معها مجموعة "فنادق انتركونتيننتال" لتعرض عليها التعاقد معها لتصوير الطعام، ومن هناك وُضعت على بداية الطريق، ثم عملت مع الشركة "بوك" العالمية في الترويج لمنتجاتها من خلال ابتكار وصفات ومن ثم تصويرها. لقد عرفت في هذه التجربة كم يبذل المصور جهداً كبيراً ومحاولات شتى قبل الوصول إلى الصورة النهائية التي تستحسنها العين.

وتؤكد أن التصوير كغيره من الفنون التي لا بد وأن يسير وفق قواعد جليّة، فهي عند تصوير طبق ما تراعي الجو العام للصورة، مثلا إذ كانت أكلة أجنبية تهّيء لها جواً يُناسبها، وكذلك لو كانت عربية. وتُكمل حديثها بشغف عن الترتيبات التي تسبق التصوير: "الأدوات تُحدد قبل يوم، كــ لون الأطباق، وغطاء الطاولة، والشموع والورود؛ ولا بد أن يفكر المصور في طبيعة الجو الذي يود الخروج به من الصورة، هل نريد جواً مُبهجاً يُحدثنا عن الصباح أم رومانسياً مسائياً؛ فالإجابة ستُسهل عليه عمله وتُمكنه من اختيار ما يلزم من أدوات، وتختصر عليه الكثير من الوقت والجهد".

"لكن ماذا لو كان طبق طعام تلتقطينه بعدستك لأول مرة؟"؛ تقول: "أبحث عنه واطلع على نماذج تصويره، وبعدها أقرأ أفكار المصورين حوله؛ وحتماً بوسعي ابتكار فكرتي الخاصة وأعرضها على المتابعين؛ فمن الجيد أن يعوّد المرء نفسه على مشاهدة الصور باستمرار. فما يحدث أنه عند اقتناصه لصورة ما سيُعرض على مخيلته كل ما شاهده سابقاً كما لو أنه فلم وبالتالي سيتمكن من صناعة بصمته".

ووفقاً لتجربة ضيفتنا فتحديد توقيت التصوير مهم للغاية، فهناك أكلات لا تحتمل تأجيل تصويرها حيث يتغير لونها أو تصبح رخوة، في هذه الحالات علينا البدء باكراً لنستفيد قدر الإمكان من ضوء الشمس للتصوير، أما الصنف الأخر فهي أكلات تُحافظ على شكلها لليوم التالي وهنا يُمكننا تأجيل التصوير. أما الوقت الذي يتطلبه التصوير يتوقف على عدد الصور وما تستلزمه من متطلبات، أحيانا يصِل لثلاث ساعات، وأحيانا عشر دقائق. "هل سبق وأن عرضتِ صورة شهيّة لوصفة ما لكن المذاق لم يكن كذلك؟": "أبداً، الوصفة التي لا يعجبني مذاقها لا أنشرها، وإذا نشرتها أخبر المتابعين أنني لن أذكر المكونات، حتى أجد بديلاً أفضل، فالمصداقية من أولويات عملي".

 | زوج داعم

q22.png
 

تزوجت فداء منذ 13 عاما؛ الإنجاب والعمل في مرحلة ما من حياتها جعلها تنقطع أحياناً عن ممارسة هوايتها؛ وتسجّل هنا ملاحظة: "الانقطاع عن التصوير يُشبه الانقطاع عن قيادة السيارة أو اللغة، إذ يترك أثرا سلبيًا ويحتاج منك العودة لبعض الأمور ومراجعتها لتعود إلى وهج عملك".

صمتت لحظة ثم ابتسمت، وعادت لتُجيب على سؤالي عن دور زوجها في دعهما: "زوجي ذوّاق وهذا شكّل لدي عامل ضغط لا سيما أني لا أحب النقد المتكرر لذا بذلت جهدي أن تنال أكلاتي إعجابه، ومع الوقت تحوّل هذا الضغط لعامل تحفيزي بامتياز. وعلاوة على اهتمامه بموهبتي؛ فقد فتح باباً جديداً أمامي لتطوير وصفاتي؛ بحكم عمله في الفنادق كان يُشجعني على تجريب وصفات غريبة، ويقترح على سبيل المثال أن نُضيف للطعام صلصة معينة "صوص"، أو مذاقاً ما، أو نخترع طبخة جديدة، هذا التراكم ساعدني لادخار العديد من وصفات الأكل الشرقي والغربي".

"الحمد لله أني مصدر فخر لبناتي وهذا إنجاز بالنسبة لي"، قالت فداء تلك الكلمات بصوتٍ يملؤه الامتنان، ثم تابعت: "يسألني بعض: من أين تأتين بالوقت؟  وبفضل الله أبنائي متفوقون في مدارسهم، مرتاحون في البيت، لهم من وقتي ما يكفيهم؛ أنهض عادة في الثامنة صباحا وأُنهي أعمالي المنزلية والمهنية، وعند عودة الأولاد الساعة الثالثة مساءً أكون متفرغة لهم".

وعن النساء اللواتي يتحججن بأعباء البيت، ويرين فيه عذراً قاهراً يمنعهن عن ممارسة ما يرغبن، ترد  فداء من وحي تجربتها على امرأة من هذا الصنف: "لا عذر لكِ، فأنا أؤمن بشكل تام أن من يريد التطور سيجد لنفسه فسحة خاصة به، وكلما كنت قريبة من الأشياء التي تُحبينها، كلما كان عطاؤكِ لأبنائك وعائلتك أكبر".

 | لا تتوقفي

29178975_10156311315696180_1474736094061789184_n.jpg

ولم تنسَ فداء في خضِم حديثها أن تروي لنا موقفاً كان له بالغ الأثر في إصرارها على النجاح: "عندما كنت أعرض صوري على "جروبات" الطعام لتقييمها واجهت إنساناً متسلطاً ينتقد بإهانة، يحاول في كل مرة تثبيط همتي، وأنا إنسانة لا تقبل الفشل، رفضت أسلوبه في الحديث معي، وواصلت تطوير نفسي لأثبت أنّي أستطيع الوصول إذا أردت ذلك". في المقابل حين كانت تعرض نتاجها على أجانب متخصصين بتصوير الطعام، يتم توجيهها في نقاط لا تُلقي لها بالاً وتعود بالإيجاب على أدائها، "فمن المهم إيجاد فنان ينقد صورك لتحفيزك وتطويرك وليس لتثبيط همّتك" وفق نصيحتها.

وفي مسابقة لــ "اتحاد المصورين العرب للحياة الصامتة"، فازت فداء بالمركز الثاني على مستوى الوطن العربي، حيث شاركت بصورة "للسمك المعلق"، وأخبرتهم أنها لم تستخدم الفوتوشوب، وأرسلت لهم الكواليس التي استمرت لساعتين لتخرج بهذا الإتقان. في هذه المسابقة شارك مصورون كِبار، لذا لم تتوقع فداء الفوز، فقط كان يكفيها شرف المحاولة كما يُقال، لكن عند إعلان النتائج ماذا حدث؟ تجيب: "تذوقت بالفوز أول لذة نصر في مجال التصوير".

الصبر، و"البال الطويل"، أجمل ما وَرّثه التصوير لمن لم تكن تطيق الصبر ولا تحتمل الانتظار، عدا عن أنه منحها مخيلة خصبة تمكّنها من اختيار الألوان والأدوات المناسبة بسلاسة. وفي نهاية حوارنا الماتع أبرقت برسالة لكل من ستمرّ على هذا الحوار قائلةً: "كل منّا فيه شغف نحو شيء ما، ربما يكتشفه متأخرا لكن حتما سيلتقي به، لذا أرجوكِ لا تتوقفي عن البحث عما تُحبين".