بنفسج

استنساخ

الثلاثاء 23 يونيو

في المرة الأولى كان باسمًا متهللًا رغم الدموع التي تغطيه، والآن أراه اكتسى يأسًا وألمًا، وأنا أنظر من النافذة، كان سمعي ثقيلًا ورأسي مشوّشًا والرؤية ضبابية وصدري ضائق، كأنني كنت أجلس تحت الماء!

كانت السيارة تسير بِتَخَبُط عندما أفقت من ذهولي هاويةً إلى ذهول آخر، إنها ذات الطريق من البيت إلى المشفى، لم تتغير معالمها، أجلس في نفس المكان بجوار النافذة، دموعي تنحدر على خدي وقلبي تعتصره قبضة من حديد، إنه نفس الإحساس، لكنه قبل عام كان مختلطًا بأمل، وبعض من رجاء وفرح.

أما اليوم، فيشوبه شيء آخر، شيء جديد أحس به للمرة الأولى، كثقب هائل في جانب صدري الأيسر، تجلس أمي بجواري تمسك كفي بيدها، وتحتضنني بالأخرى، كأنه المشهد ذاته، لم تتغير ملابسها، ترتدي أمي في هذا اليوم من أيار من كل عام ثوبها المطرز ذاته، لكن الذي تغير وجهها.

 في المرة الأولى كان باسمًا متهللًا رغم الدموع التي تغطيه، والآن أراه اكتسى يأسًا وألمًا، وأنا أنظر من النافذة، كان سمعي ثقيلًا ورأسي مشوّشًا والرؤية ضبابية وصدري ضائق، كأنني كنت أجلس تحت الماء! تعيد عليّ أمي عبارات التصبر وبعض الأدعية، وتُتبعها بمقاطع أخرى غريبة التقطت منها "ويحميلك عبود".. انتفضتُ! عبود؟ لم أدرِ ساعتها أَلْتَقَطْتُ الكلمة بأذني أم بقلبي، آه عبود.. إنه نفس اليوم الذي كنت فيه في طريقي لولادته، مولودي الأول بعد عشرة أعوام من الانتظار.

وقد كان عبود، وُلد في الرابع عشر من أيار، كان مقررًا إجراء الجراحة في الخامس عشر "يوم النكبة"، لكن والده لم يشأ أن يرتبط ميلاده بذكرى مؤلمة، اعتَقَدَ أن ذلك شؤمًا عليه. يا إلهي! لقد أصبح يوم ميلاده أكثر شؤمًا! مات والدك اليوم يا عبود!!

لقد اشترى لك هدية يوم ميلادك، لقد اشترى الكعكة، وعلّق الزينة. استيقظتُ اليوم باكرًا وقمتُ بتنظيف البيت وتحضير ما يلزم، خرج من البيت أثناء قيامي بالتنظيف، وقال إنه يوم جميل، ومضى مستعجلًا بعد أن شدّدت عليه ألا يتأخر عن الحفل، خرج ولم يعد! مات والدك يوم ميلادك الأول يا عبود!

لكن هل حقًا ما يقولون، ربما أنا في كابوس، التفَتُّ إلى أمي: عنجد مات أبو عبد الله؟ أجابتني بنوبة بكاء وتمتمات وأدعية لم أفهمها وضَغْطة أقوى بيدها على كتفي.

كيف ينقلب الجو فجأة من دفء لطيف إلى لسعة برد؟ أو ينقلب فجأة من نسيم بارد إلى حرارة مُرهِقة؟ كان يضحك معقّبًا: كما سأنقلب فجأة إلى أب مسؤول عن قطعة من كبده تمشي أمامه، بعد عشرة أعوام من الحرية!

لم يزل الطريق مألوفًا، جو مغبرّ بارد مائل إلى الصفرة، يجلس أبي بنفس الترتيب إلى جوار السائق، لكن أبو عبد الله ليس معنا كالمرة الأولى، إنه في انتظارنا مسجّىً في ثلاجة الموتى لنتعرف إلى جثته! مضى الوقت كأنه دهر، كان الهواء يلسع وجهي ببرودته رغم إحساسي بحرارة شديدة، لطالما تساءلتُ حينما كان يصحبني في نزهة إلى الشاطئ، كيف ينقلب الجو فجأة من دفء لطيف إلى لسعة برد؟ أو ينقلب فجأة من نسيم بارد إلى حرارة مُرهِقة؟ كان يضحك معقّبًا: كما سأنقلب فجأة إلى أب مسؤول عن قطعة من كبده تمشي أمامه، بعد عشرة أعوام من الحرية!

عشرة أعوام، قضاها معي وحدي دون أطفال، ودون تذمّر أيضًا، دون يأس، ودون أية مشاكل. لقد كان المثال الحيّ للإنسان الكامل! الآن فقط فهمت لماذا، إنه لم يُكتب من أهل هذه الأرض، كان ملاكًا من الشهداء الذين يُعرفون بسيماهم حتى وهم أحياء، ألهذا حُرِمتُ من الإنجاب حتى قبل عامٍ واحدٍ من موتك؟ لآخذ حقي معك قبل أن يأتي يومك المحتوم؟ لكنني لم أكتفِ، أريدك دهرًا لنشيخ معًا، ونزوّج ابننا الوحيد، ابننا الذي اخترتَ أن ترحل في أول حفلة عيد ميلادٍ له! ألم تجد على الأقل يومًا آخر؟!

فُتِح الباب الذي أحدّق في نافذته فجأة، لم أنتبه حتى لتوقّف السيارة، يد أخي ممدودة في وجهي، ويد أمي ترتخي عن كتفي، وضعت قدمي على الأرض، إنها قدمي ذاتها التي كانت ترتدي الحذاء الأميري وفستان سندريلا الأبيض، قبل عشرة أعوام، كان أخي الذي يمدّ لي يده الآن طفلًا، بدا فاتنًا في البدلة الرسمية، مدّ يده نحوي تمامًا كما اليوم، لكنه مدّها ليتحسس الفستان الأبيض الذي يحسبه أغلب الصغار في سنّه هالةً من نور أو قطعةً من غيم، لقد غدا اليوم رجلًا، يُخفي وجهه من مواجهة عيني أخته الكبرى التي أصبح يحمل الآن عبء جُرحها كما حملته طفلًا مرات ومرات.

أذكر تمامًا كيف وقف عريسي يساعدني على النزول، كان وجهه أجمل من البدر، وابتسامته أحلى من الجمال، أزلتُ بيدي قصاصةً من الورق الملون علقت بشعره، قبل أن ندخل قاعة العرس، كان يخشى ألا أكون سعيدة حين تقَرَّر أن يكون عرسنا مشتركًا تقاسمني إياه عروس أخيه، لكنني لم أعترض، أشفَق عليّ من انتقاص الفرحة ومتاهة المقارنات، لكنني لم أكترث، ومضى ذلك اليوم كأجمل ما تكون الأيام، كما مضى يوم ميلاد عبود كأجمل ما يكون تحقق الأمنيات.

"سمي واستعيني بالله يابا وانزلي" انتزعتني جملة أبي من تحت الماء، كان عليّ الآن أن أواجه الواقع، ليس حلمًا، ولا مجال للشك أو الرجاء، مشيت في باحة المشفى كما فعلت قبل عام تمامًا، بخطى متثاقلة وهم حولي بين باكٍ وواجِمٍ ومُنتحِب، ونظرات الناس تلتهِمنا، لكنهم لا يبتسمون، العجائز لا يبشرنني بزوال حزني وألمي في "غمضة عين" عند رؤية وجه مولودي، الممرضات لا يهرعن لمساعدتي طلبًا "للفأل الحلو"، كانوا واجمين تبدو في عيونهم نظرات الإشفاق، ويتبادلون الهمسات بحذر، سمعت منها "مرت الشهيد".

ترددت الكلمة في سمعي وتعاظم صداها حتى ملأ جوفي، وهزّ أركان قلبي، من هذه التي يتحدثون عنها؟ أهذه أنا؟ وإلى أين يأخذونني؟ لأرى جثة زوجي؟ ضغطت على عقلي كثيرًا ليستوعب ما أقول، لكنه كان يتفلت ويتمرد، حتى وصلت بابًا معنونًا بـ"ثلاجات الموتى" شعرت بالدوار وكَبَت ساقاي، مرت لحظات وأمي وأخي يحاولان إسنادي، وأنا أحاول إخماد المعركة الدائرة بيني وبين عقلي، أو إرجاءَها على الأقل.   

دخلت بعد أن تمالكت نفسي، واستجمعت شجاعتي المتبقية، رأيته ممددًا وقد تم لفه بملاءة بيضاء، كُتب عليها بخط عريض: شهيد (6) شاهر المدهون. لعلّ الذي كتب هذه الجملة لم يمثّل له الإنسان الذي تحتها شيء سوى الرقم الذي لا يجب أن ينساه، حتى يكون الإحصاء دقيقًا، ربما كتب الأرقام السابقة على عجل، وبعد الرقم السادس، مضى ليكمل طريقه بانتظام.

هل يدرك أن هذا المسمى 6 هو عالم بأكمله؟ حياة بكل تفاصيلها؟ تفاصيلها التي ترتبط من كل طرف بتفاصيل حيوات أخرى كثيرة لأناس كثيرين؟ وأن انقطاعها عنهم يعني انفصام جزء منهم واختفاءه من الوجود؟

كان جبينه نَدِيًّا رغم صقيع الثلاجة، وملامحه مسترخية كأنه نائم، وبدَت ارتماءات أحبابهم على جسده منهارين شبيهة بحركات عبود وهو يحاول إيقاظه بعنف طفولي ودلال، لكن ملامحه ظلت هادئة ثابتة وجسده يهتز بفعل تحريكهم له متوسلين أن يعود، كنت أنتظر أن يفيق، ويبتسم، وينهض ببطء، لماذا ربطوا يديه معًا وشدّوهما برِباط إلى صدره؟ دعوه، فمن عادته أول ما يفيق أن يمدّ يده اليسرى ليرتب شعره، انتظرته أن يحاول تحريكها.. لكنه لم يفعل!

كنت أسمع صوته يخاطبني، بوضوح تام واختفى كل الضجيج من حولي، سمعته يقول: اقتربي لا تخافي. تأملته، مددت يدي على كفيه المعقودتين، طبعت قبلة على جبينه، وهمست في أذنه "سلام عليك".. ومضيت

عدت في نفس الدرب التي مشيتها معه حاملة حلمي الأول، بعد أو ودّعت الحقيقة الوحيدة في حياتي.. وعلى نفس الخطوات رأيت الخطوات التي رسمناها لعبود معًا، فمحوتها، ورسمت له دربًا أخرى مُفتَتَحُها: شهادة والده!