ما إن تطأ قدمك خيمة يافا الكفارنة حتى تبصر الهمة والنشاط في كل زاوية؛ لا وقت للهو أو الراحة، فالحركة سريعة بين أفراد الفريق، والاتصالات متواصلة لإنجاز المهام. بين إدارة عملها الرقمي من جهة، وتنظيم جلسات الدعم النفسي وتعليم النساء كيفية التصدي للآثار السلبية لحرب الإبادة من جهة أخرى، لا تعرف الكفارنة طعم السكون.
يافا الكفارنة، ابنة التاسعة والثلاثين، خريجة كلية الصحافة عام 2007، عملت في صحف ومجلات محلية وعربية، ودرّست الصحافة في الجامعات الفلسطينية. ومع موجة الإعلام الجديد عام 2010، قررت خوض التجربة الرقمية لتخفيف أزمة البطالة، فكانت البداية نحو حلم كبير.
وفي عام 2016، أسست شركتها الخاصة، وبجهدٍ متواصل كوّنت فريقًا قدّم تدريبات في الإعلام الرقمي والتسويق والذكاء الاصطناعي، ورفع اسم فلسطين في محافل دولية. كانت تصعد بثبات على سلم النجاح، رغم الالتزامات المالية الكبيرة بعد توسّع الشركة وفريق العمل. لكن حرب الإبادة الجماعية قلبت كل الموازين؛ دُمّرت شركتها ومنزلها، واضطرت للنزوح جنوبًا إلى خيمة تأويها مع أطفالها الخمسة.
رحلة النزوح ومعاناة الأمومة

كانت رحلة النزوح واحدة من أكثر التجارب قسوة، فالخيمة تفتقر إلى أبسط مقومات الحياة في ظل مجاعة متصاعدة وارتفاع جنوني للأسعار.
تحاول يافا تأمين احتياجات أطفالها الخمسة وسط شحّ الأدوية وغياب الرعاية الصحية، تقول: "توقّف التعليم زاد العبء علينا، أصبحت الخيمة مكانًا للنوم والطعام والدراسة والعمل. أحاول تعليم أطفالي القراءة والكتابة بنفسي، رغم التعب والانهيار، لكن هدفي الأوّل هو حمايتهم وضمان بقائهم على قيد الحياة."
لم تستسلم يافا، فالحلم الذي بنته لا يمكن أن يُمحى بصاروخ. قررت أن تبدأ من جديد داخل الخيمة نفسها. تواصلت مع فريقها المشتّت بين الإصابات والنزوح، وجمعتهم من جديد ليبدؤوا العمل رغم انقطاع الكهرباء والإنترنت. بإصرارهم، حصل مركزهم على تقييمات مميزة، وبرز طلابه في مشاريع رقمية رائدة، وبعضهم أصبح اليوم من موظفيه المبدعين.
اقرأ أيضًا: ممرضات غزة.. حين يصبح الواجب أقوى من الخوف
تقول الكفارنة بصوتٍ مفعم بالتحدي: "النجاح كان حليفنا، لكن تكاليف الكهرباء والإنترنت تصل إلى 1200 شيكل أسبوعيًا، وهو رقم يجعل الاستمرار أقرب إلى الانتحار، ومع ذلك فإن توقفنا عن العمل هو أيضًا انتحار، لأننا نحمل مسؤولية جيل كامل."
ورغم كل هذا، ما زالت يافا تتحمل مسؤولية إعالة أطفالها الخمسة، بينهم رضيعة تحتاج إلى الحليب والحفاضات، وتطبخ على نار الحطب بأوانٍ سمرها الدخان. تقول: "التجربة قاسية جدًا، واجهتها وحدي، لكني مصممة على حماية أطفالي والاستمرار، فالتوقف يعني النهاية."
أملٌ يمتد من الخيمة إلى الفضاء الرقمي

تتنقل يافا اليوم بين غزة ومخيم النصيرات لتُبقي مركزها على قيد الحياة بجهود فردية ودعم محدود، مدفوعة بإصرارها على رؤية طلابها يتحولون إلى قصص نجاح تمثل فلسطين في العالم الرقمي. وفي المقابل، تعمل مراكز وجهات محلية ودولية على دعم النساء وتمكينهن من استعادة أعمالهن، بعد خسائر جسيمة لحقت بصاحبات المشاريع الصغيرة خلال الحرب. تقول الكفارنة إن الشباب الفلسطيني قادر على النهوض من جديد، فقط إن مُنح الفرصة.
يقول حسن حمدونة (25 عامًا)، أحد خرّيجي مركزها وعضو فريقها اليوم: "أحببت الإعلام الرقمي منذ دراستي في الشركة، ثم أصبحت قائد فريق ومسؤولًا عن التنسيق مع الشركات في الخليج. خلال الحرب توقفنا تمامًا، لكننا قررنا العودة رغم انعدام الكهرباء والإنترنت، بدأنا من خيمة صغيرة، والآن نعمل بعزيمة وإصرار." ويختم حديثه: "اليوم أنا قائد فريق، وغدًا سأمتلك أكبر شركة رقمية في الشرق الأوسط. الفلسطيني لا يعرف الكلل، بل يخلق الأمل من تحت الرماد."

